سعدت كثيرا بحضور حفل اعادة افتتاح معبد «إلياهو هانبى» بشارع النبى دانيال بالإسكندرية الجمعة الماضية، وهو درة معابد الثغر، تبرعت الكنيسة القبطية منذ زمن بعيد بالأرض التى أقيم عليها وتجاور البطريركية الأرثوذكسية، وقد تعرض للقصف إبان الحملة الفرنسية، وأعادت أسرة محمد على ترميمه عام 1850، وبمرور الوقت تدهورت أحواله، وقررت الحكومة المصرية ترميمه أسوة بمعابد أخرى قامت على ترميمها ضمن المساجد والكنائس التراثية.
تحملت الحكومة ملايين الجنيهات لترميمه، وأخرجته بصورة مبهرة، وشارك فى المناسبة عدد من الشخصيات العامة، والأثريين، والإعلاميين المحليين والدوليين، وبعض المصريين اليهود على قلة عددهم. هذه رسالة من رسائل التعددية المهمة فى المجتمع المصرى الذى اعتاد لعقود طويلة يتحدث عن «العنصرين» ــ أى المسلم والمسيحى ــ حتى ترسخ ذلك فى الوعى الجمعى، ونسى أن هناك مجتمعا يهوديا عاش بالآلاف بين جنبات هذا المجتمع، ولسبب أو لآخر تضاءل عددهم بشدة. وربما من الملفت أن نتذكر فيلما صدر فى مصر عام 1954 باسم «حسن ومرقص وكوهين»، تجسيدا للثلاثية المصرية، ثم صدر فى عام 2008 فيلم آخر اسمه «حسن ومرقص»، وكان فى اختفاء «كوهين» تعبير عن تقلص مساحة التعددية.
هناك عائلات يهودية مهمة فى تاريخ مصر الحديث أشهرها قطاوى، وعدس، ونادلر التى تزوج الراحل الدكتور بطرس بطرس غالى إحدى السيدات المنتسبات لها، وهذه العائلات وغيرها لها دور مهم فى الاقتصاد المصرى، وكان للمحلات التى يمتلكها اليهود شهرة مثل ريفولى، وبنزايون، وعمر أفندى، وهانوى، غيرها. وإن كان لليهود دور فى الصناعة والتجارة، لا يمكن أن نغفل دورهم فى الفن والثقافة، يعقوب صنوع الشهير باسم «أبو نضارة» أنشئ أول مسرح، وتوجو مزراحى أحد أهم رواد الإخراج السينمائى، والراقصة كيتى، والملحن والموسيقار داود حسنى، الذى كان اسمه «دافيد حاييم»، لحن نحو خمسمائة أغنية، والفنانة راقية إبراهيم، اسمها الحقيقى «راشيل أبراهام»، وليلى مراد، ونجمة إبراهيم وغيرهم.
بالطبع كان لنشوء الحركة الصهيونية الدولية، ثم تأسيس دولة إسرائيل، وما أحاط بذلك من أحداث وملابسات طويلة لا داعى للخوض فيها الآن، دور لا ينكر فى إرباك الحضور اليهودى فى مصر، ولكن فى المقابل لا أحد ينكر الوعى المصرى ــ وهو ما ذكره الدكتور مصطفى الفقى ــ فى حفل افتتاح معبد «إلياهو هانبى» أن فى كل الحروب التى خاضتها مصر فى مواجهة إسرائيل سواء 1956، و1967، و1973، ظلت المعابد اليهودية المنتشرة فى القاهرة والإسكندرية وغيرهما فى أمان، وهو ما يعبر عن وعى المصريين الرفيع، وقدرتهم على عدم الخلط بين الأمور.
يعبر افتتاح معبد «الياهو هانبى»، عن رؤية عميقة للتسامح، لا تقل أهمية عن إنشاء مسجد وكنيسة فى العاصمة الإدارية، ولا تقل كذلك تقديرا واحتفاء بالتاريخ المصرى، الذى تجسدت فيه قيم التعددية والتنوع، ومن الواجب أن تحتفى مصر بتاريخها، وتراثها، وآثارها، الفرعونية، والمسيحية، والإسلامية، واليهودية، لأن ذلك تعبير عن أهمية هذا التاريخ، الذى يندر أن يوجد نظير له فى أى مكان آخر. وقد سمعت مرة عندما زرت مدينة «سراييفو» من يصفها بأنها «قدس أوروبا»، نظرا لأنها تضم معالم لأهل الأديان الثلاث، فإننى أقول إن الأولى بهذا اللقب هو مصر، وتحديدا القاهرة، التى تقدم متحفا مفتوحا لكل العصور والحضارات، وتحتضن تراث كل الأديان.