الكلام جدٌ كثير. تعليقات تنهال مِن هنا وهناك، اشتباكات لفظية تملأ الشوارع والمواصلات والبيوت، وتفيض بها مواقع التواصل الإلكترونية، لا راحة ولا هدنة وأحيانا لا تفكير. مَعارك كلامية لا تنتهى حتى مع انتهاء قواميس اللغة، وقوائم سُباب الفصحى والعامية التى لا تنفكّ تتجدّد كل لحظة. تلك الأخيرة صارت جزءا ثابتا مِن كل حديث، وكأنها القول الفصل الذى يُوجز مَوقفَ صاحبه ويكفيه عناءَ الجدل العقيم.
منذ بضع سنوات مضت، شكا قليلون احترفوا فعل الكلام مِن صمت الناس. كان أغلب الظن أنّ الناس إنْ تكلموا تغيرت الأحوال وانصلحت الظروف، وعادت الحقوق واستعادت الحياة رونقها. أعظم الأمنيات دارت حول انفجار جموع الصامتين، هؤلاء الذين تجنبوا دوما المشاركة فى رفض ظلم أو فضح فساد واستكانوا حانقين مستسلمين، واحترفوا بدورهم ابتكار تنويعات جديدة تستلهم التعبير الشهير (مافيش فايدة) وتضيف إليه، وتجوده بما يتماشى مع الواقع المرير الذى بدا لفرط ركوده أبديا.
•••
جاء الوقت المُنتظر دونما إعداد ولا ترتيب، انفتحت الأفواه وانطلقت الألسن ولم يعد فى الإمكان العثور على صامتٍ وحيد. الكلّ يرتكب ما امتنع عنه طيلة سنين. انخرطنا جميعا فى حديث طويل لا يترك شذرة من دون أن يتطرق إليها، ساخرا أو زاعقا، واعظا أو مُحرضا، وفى بعض الأحوال هاتفا بالتأييد. الحديث عند علماء اللغة بمثابة فعل، والفعل لا مَحالة يترك أثرا. بعض الكلمات صار وسيلة لتحقيق انتصارٍ مُتوَهّمٍ أو إنجازٍ لا يُبارحُ حدود النفس، وبعضها حسم الفصل الأخير فى حياة آخرين.
•••
تابعت عشرات وربما مئات المتكلمين؛ سمعت فى الأيام الماضية مَن هُو مُمتن لعدم استخدام الرصاص الحيّ أو طلقات الخرطوش فى قتلِ شُبّان متزاحمين أمام بوابات ملعب كرة القدم، فيما هو قانع بحصارهم واعتصارهم حتى صعود الروح، وسمعت مَن هُو راضٍ بموتهم خنقا بقنابل الغاز وضربا بالعصى والهراوات ماداموا لم يحوزوا تذاكر الدخول. سمعت أيضا مَن هو آسف مُمتعِض مِن عشوائية الجماهير، وهمجية المُشجّعين، ومَن يتحسّر على أننا أمة لا تفهم فضائل النظام والانتظام فى الصفوف، ولا تعرف احترام الأقفاص والقضبان، وصادفت أيضا مَن أدان "سوء الأدب والتربية" ورآها أمورا تبيح القتل وتجعل منه اختيارا مُناسبا ومريحا للجميع. الموت فى عُرف البعض عقابٌ مقبولٌ لرجلٍ تظاهر ذات يوم، ثم حملَ علما بعد حين ومضى يشجع فريقه مِن المُدرجات. رفع الرجل فى المظاهرة شعار رابعة الشهير ونجا مِن الموت حينها، ثم مات على عتبات المَلعب؛ بالدخان أو الرصاص، فرفع مَن عرفتهم قبلا صامتين، صورة جسده المُسجّى وبجانبها صورته حيا متظاهرا، مُعلنين أنه استحق القتل أو ما يزيد.
•••
سمعت مَن ينبذ القتل حرقا، ويُحِلّه ويُرحّب به صلبا وتقطيعا للأوصال والرءوس. قرأت لرجال دين يحاولون مُجاراة العصر بعد فترات صمت، فإذا بهم يسبحون مع تيار الجنون، ويتحدثون بدورهم عن القتل وأنواعه ويصنفون ضحاياه المُلائمين.
•••
الصخب يطغى على كل شىء، يطمس الأسماء والأحوال وعناوين البيوت، ويصنع ألقابا وأوصافا تهدر كيان المقتول، وتُضفى على عَملية القتل مَذاقا ناعما مُستساغا، كما تعطى القاتل تفويضا بالمزيد. حديث جموع الصامتين ساد الشاشات واجتذب إلى فلكه بعض من كانوا عنه معرضين. قليلون تساءلوا: أى قبح لم نرتكبه بعد؟
•••
مات الفتى. أى فتى. هذا الذى كان يعيش صامتا وكان يدعو صمته أن يصمت، وكان صمت صمته يصمت صمتا خافتا. مات اليوم؟ لا هذا الفتى عاش ومات ميتا. أتذكر اصطحابنا، وكنا جماعة مِن الرفقاء لدواوين أحمد مطر ونحن بعد طلابا ندرس فى الجامعة. كان بعضنا يعيد قراءة الأبيات مأخوذا بصدقها وأوجاعها، والبعض الآخر ينقشها على أوراق مقواه، نتعاون فى تثبيتها على الحوائط علّها تستفز الصامتين فينطقون. اليوم تكلم الفتى، ولما تكلم لاح الصمت بليغا.