لم تكن زيارة الرئيس الصينى شى جين بينج إلى السعودية الصيف الماضى حدثا عابرا، فقد استطاع أن يلقى شباكا واسعة فى بحر منطقة مضطربة، تسعى الولايات المتحدة إلى الابتعاد عنها. بعد ثلاث قمم عقدها: السعودية الصينية، الخليجية الصينية، والعربية الصينية، أدرك أن الفرص الاقتصادية واسعة، ولكن هاجس دول الخليج، وبالأخص السعودية، تجاه إيران لا يمكن تجاوزه بسهولة، ولاسيما فى ضوء العلاقات الصينية الإيرانية القوية. من هنا كانت زيارة الرئيس الإيرانى إبراهيم رئيسى إلى بكين نقطة تحول بالنسبة للدبلوماسية الصينية فى اتجاه الوساطة لاستعادة العلاقات بين السعودية وإيران. فى البيان الختامى لزيارة رئيسى إلى بكين، كانت هناك إشارة مهمة إلى أهمية الأمن الإقليمى، وتدرك الصين أن بوابة الاستثمار فى الشرق الأوسط هى تهدئة الصراعات، وتسوية النزاعات. وقد ألقت بكين بالوساطة بين الدولتين، وهى تدرك جيدا أن كلا الطرفين يريدان التهدئة. من ناحية أولى تبحث السعودية عن مخرج من الحرب فى اليمن، التى تستنزف طاقاتها لسنوات فى مواجهة الحوثيين المدعومين من إيران، انفقت خلالها مئات المليارات، وتعرضت بسببها إلى انتقادات دولية، وعطلت انطلاقها على الصعيد العالمى. يضاف إلى ذلك أن السعودية أدركت منذ الاعتداء على منشآتها النفطية عام 2019، والذى لم يكن ليحدث إلا بدعم إيرانى، أنه ينبغى فتح قنوات للحوار مع طهران، خاصة بعد أن أظهرت إدارة دونالد ترامب وقتئذ عدم اكتراث بما حدث، رغم خطورته النوعية. أما إيران، من ناحية ثانية، فهى تريد تهدئة مع الجيران فى الخليج، تحاصر بها الولايات المتحدة فى وقت تتعثر فيه جهود استعادة الاتفاق النووى، وتزداد حدة المواجهة مع إسرائيل. هذا فضلا عن الوضع الداخلى الملتهب فى إيران منذ منتصف سبتمبر الماضى بعد حادثة مقتل الفتاة الكردية الإيرانية مهسا أمينى، وما ترتب عليها من احتجاجات شملت جميع الطبقات، وامتدت إلى المدن التى تشهد نفوذا متسعا للنظام الإيرانى، إلى جانب الجامعات والمدارس والفنانين والرياضيين والتجار، بل وبعض أوساط رجال الدين الشيعة أنفسهم.
تسعى الصين ــ ذاتها ــ إلى تحقيق عدة أهداف، منها إحراز هدف فى مرمى الولايات المتحدة، وملء الفراغ الاستراتيجى فى المنطقة، والاستحواذ على استثمارات فى منطقة واعدة، أقصد الخليج، الذى خرج من الحرب فى أوكرانيا مركزا ماليا مهما على مستوى العالم، ويبدو أن بكين تضع عيناها على إعادة إعمار اليمن، وهى الخطوة التالية لوقف إطلاق النار، وبلوغ تسوية ما بين السعودية والحوثيين، مثلما تضع بكين آمالها على إعادة إعمار أوكرانيا، وهو ما ذكرته الدبلوماسية الصينية صراحة فى ختام المبادرة التى أعلنتها لإنهاء الحرب الدائرة هناك، عندما أكدت أهمية إعادة أعمار المناطق التى مزقتها الصراعات المسلحة، ولفتت مباشرة إلى أن الصين تمتلك كفاءات وخبرات فى هذا المضمار.
بالطبع من المبكر الحديث عن الكاسبين والخاسرين من جراء الاتفاق السعودى الإيرانى لاستئناف العلاقات الدبلوماسية، وإعادة العمل باتفاقات أمنية واقتصادية بين الجانبين، قد يبدو للبعض أن إسرائيل فى مقدمة الخاسرين، وبالأخص رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو الذى قضى وقتا يحاول بناء حلف مناهض لإيران، تكون دول الخليج العربى طرفا فيه، ليس هذا فحسب، بل كان يرنو إلى توسيع ارجاء الاتفاقات الإبراهيمية بانضمام السعودية إليها، وهى التطلعات التى تعثر جوادها فى رمال الاتفاق الجديد، والذى يحتاج بالتأكيد إلى وقت لاختبار مدى قدرته على تغيير الواقع فى المنطقة. قد ننتظر لنرى إلى أى حد سوف تتخلى إيران عن سياساتها الإقليمية التوسعية، وتوظيف الأدوات العسكرية التابعة لها، وتعطيل التسويات السياسية فى بعض الدول، وأظن أن أهم اختبارين لهذا الاتفاق هما إيقاف الحرب فى اليمن، والاتفاق على الاستحقاق الرئاسى فى لبنان، فإن حدث كليهما فى غضون الشهور القادمة سيكون لهذا الاتفاق مفعوله، ونرى أن السنوات التى قضاها الطرفان السعودى والإيرانى من بغداد إلى مسقط إلى بكين اثمرت نتائجها.