عوالم موازية.. عوالم بديلة - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 12:03 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عوالم موازية.. عوالم بديلة

نشر فى : السبت 14 أبريل 2012 - 8:30 ص | آخر تحديث : السبت 14 أبريل 2012 - 8:30 ص

منذ أسابيع قليلة، افتتح فنانو الجرافيتى شارع الشيخ ريحان، أقاموا فيه حفلا بمناسبة انتهاء حملتهم التى أطلقوا عليها عنوان «مافيش جدران»، فى حوار صحفى قال أحد الأعضاء المشاركين فى الحملة ــ التى اعتمدت على تحويل الجدران إلى لوحات تشكيلية ــ إن الفكرة جاءت إلى الوجود بعد أن أقامت وزارة الداخلية مجموعة من الجدران العازلة لحمايتها، أحاطت بها نفسها من جميع الجوانب، وبسببها أُغلِقَت الشوارع تماما، وتسبب إغلاقها فى تكدس مرورى مزعج فى منطقة وسط البلد والكورنيش. أضاف العضو أن الحملة تكونت مِن مجموعة رسامين متميزين، قرروا التوجه لهدم الجدران ــ فنيا وليس فعليا ــ وإعلان فتح الشوارع المغلقة: «كثير من الحضور اعتقدوا أننا جئنا لهدم الأسوار الحجرية، ونسوا أن الفن له وسائل أخرى غير العنف».

 

لم تُزِل الحملة الجدار لكنها استهدفت الهدم الرمزى، كسر الغرض الذى من أجله أُنشِئ واستقر، ما فعلته الحملة بالجدار كان مثيرا بحق، فقد جعلت المارة الذين يقفون أمامه يرون استكمالا لمعالم الشارع؛ امتدادا للرصيف وأعمدة الإنارة والإسفلت، أظهرت الرسوم الجرافيتية الجدار وكأنه مفتوح لو شوهد من مسافة معقولة، وكأن تلك الأحجار الضخمة المتراصة جنبا إلى جنب لم تعد موجودة. اعتمدت الحملة على مقاومة القيود من خلال خلق عالم جديد، وإن كان وهميا وخادعا.

 

●●●

 

لا يعدم الناس وسائل المقاومة.. منها ما يقف عند حدود التمنى وإطلاق الخيال، ومنها ما هو مباشر ملموس يضرب قلب الأزمة، ومنها ما يعتمد على صناعة بدائل لموضع الخلاف. شَكَّلَ مائة من شباب الثورة المنتمين إلى حركات وتيارات وأحزاب سياسية متنوعة، برلمانا موازيا خلال الفترة الماضية، يسير وفقا للائحة تنظيمية، ولديه لجان نوعية مثل التعليم والصحة والثقافة والأمن القومى وغيرها، كما أن لديه لجنة استشارية مكونة من شخصيات عامة، هدفها المساعدة فى إنجاز المهام والأعمال الموكلة إلى الشباب. يقول القائمون على هذا البرلمان الثورى الموازى، أنه ليس بديلا عن البرلمان «الشرعى» المنتخب، لكنه فقط لتعويض افتقاره إلى وجود شباب ممثلين عن الثورة. على الجانب الآخر، هدد المنسحبون من الجمعية التأسيسية للدستور، قبل صدور حكم المحكمة الإدارية ببطلانها، بتشكيل جمعية أخرى موازية، تعمل على وضع دستور جديد أيضا «مواز»، احتجاجا على غياب المعايير الواضحة فى اختيار أعضاء الجمعية الأصلية.

 

الكيانات والعوالم الموازية التى نقيمها ليست بجديدة علينا، فقد ظهرت وتنامت على مدار عقود طويلة من القمع والاستبداد؛ شهدنا فى عام 2010 البرلمان الشعبى الموازى، الذى خرج إلى الوجود بعد انتخابات مجلس الشعب للعام ذاته، ولأعوام عديدة مضت، ظل طلبة الجامعات يقيمون انتخابات دورية بالتوازى مع الانتخابات الأصلية المُعتَرَف بها، ويشكلون اتحادات طلاب موازية للاتحادات الرسمية، يقومون من خلالها بجميع الأنشطة والخدمات؛ ينظمون الرحلات، ويطبعون المذكرات والنشرات، مع ذلك لم تؤد تلك الكيانات «الموازية» فى حينها إلى تغيرات كبرى، لم يؤد البرلمان أو الاتحاد الموازيان يوما إلى سقوط مثيليهما الرسميين، ولم يحلا محلهما بصورة كاملة.

 

حين طالعت الرسوم على الجدران، وبرغم جمالها ودقتها، شعرت بأن هناك ما يؤرقنى، ويثير مخاوفى، توجست من أن تتحول إلى مجرد مسكن لطيف يُعالج الألم، لكنه لا يطال جذوره ويقتلعها. ظللت أفكر أن الأحجار مازالت هناك، لن تُمَكِّن أحدا من العبور إلى الجانب الآخر، والخداع البصرى حتى وإن صدقناه وأعجبنا به، لن يسمح لنا بممارسة الحرية الفعلية. كانت بالنسبة لى وكأنها نوع من الاستسلام لما تم فرضه.. شكل من أشكال الهروب من الواقع، محاولة لتجميل الهزيمة وجعلها مشرفة.

 

لم أعتقد أن لتلك الرسوم تأثيرا آخر مهما حتى جاء الأول من أبريل، وبدأت معه حملة جديدة مفاجئة لإسقاط الجدران، هذه المرة ليست من خلال الرسومات والألوان، لكنها بالمعاول وبأسياخ الحديد.. فى ساعات خمس فقط، هى عمر الحملة، سقط الجدار الكائن بشارع قصر العينى، تزحزحت الأحجار هائلة الحجم والوزن أمام سواعد الغاضبين والغاضبات، ووقعت أرضا وبدأ الناس فى التدفق والعبور من بينها ومن فوق أنقاضها. أسابيع قليلة مرت بين الحدثين، لكنها كانت كافية لتغيير ظنونى وتبديد هواجسى بشكل إيجابى.

 

●●●

 

تتخذ المقاومة صورا متعددة، قد نصعدها درجات أو ننتهجها صورة بجوار الأخرى، دون أن ننفى إحداها أو نترفع عنها. أغلب الظن أن مبادرة الجدران المفتوحة وهمُ، التى بدأها الرسامون، قد ألهمت الناس إسقاط الجدران وهدمها فى الحقيقة وعلى الأرض، تركوا العوالم الخيالية بكل ما تحمله من جمال وسمو، وانتقلوا بالفكرة إلى حيز التنفيذ، تطور الفعل الفنى الهادئ إلى فعل أكثر حيوية وسخونة، وانتقل من احتجاج رومانسى إلى فرض وجود.

 

●●●

 

ترى هل يمكن أن يمتد الأمر إلى حواجز وقلاع أخرى تستحق المثل، يُسقِطُها الناس بأيديهم كما فعلوا بجدار شارع قصر العينى، هل ننتقل بذات الطريقة من إقامة عوالم وكيانات موازية إلى امتلاك العوالم الحقيقية؟، ربما ففى نهاية الأمر سقط جدار، وفى يوم قريب، سوف نهدم الجدران التى شيدتها كل سلطة مستبدة، بأيدينا ومعاولنا.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات