جعل الرجلُ يُثرثر خلال لقاءٍ عابر على مقهى، مشيدًا بمسيرته الخاصة، متحدثًا عن قُدراتِه وإمكاناته التي تخوّل له حلَّ أيّ أزمة في التوّ واللحظةِ، عارضًا مساعدته على مَن يحتاج، وبعد أن اطمأن للصورة التي رسمها لنفسه، وقبل أن يندلعَ نقاشُ بشأن ما قال؛ غادر القعدةَ مُختالًا سعيدًا، فما إن اختفى عن الأنظار حتى عقَّب آخر مُلوحًا بيده: طقُّ حَنَك، لترتسم البسمات على الشفاهِ وتهتزُّ الرؤوسُ مُؤمنة على القَّول.
• • •
"طقّ الحَنَك" تعبير شائع، يشير إلى الكلام الذي لا يُعوَّل عليه، ولا يُنتظَر أن يَسريَ أو يتم تنفيذه. هو مَحض عبارات تخرجُ من الفمّ دون أن تُلزِم صاحبها بتحرّي الصدقَ أو الالتزام بالحقائق الموضوعية، وغالبًا ما يحمل من المُبالغاتِ ما يفضحه؛ قبل أن يُختبر عمليًا.
• • •
في قواميس اللغة العربية؛ طقَّ الشيءُ أي أصدر صوتًا، ويُقال طقَّ الغصنُ أي فرقع، وكذلك يطقَّ الضفدع في وثبته بمجرى المياه وارتطامه بها، وإذا اصطك حجران فذاك أيضًا صوتهما. الفاعلُ طاقٌّ، أما الطقَّة؛ فاسم المرةُ الواحدةُ من الفعل، والصوتُ خالٍ من المُحتوى اللفظيّ؛ إنما يُدلّل على حركةٍ تسبَّبت فيه.
• • •
في الثقافةِ الشعبيةِ يدعو بعضُ الناس وجبةَ الطَّعام: "طقَّة"، وربما جاء المُسمّى من ذاك الصَّوت الصادر عن عملية المَضغِ وحركة الفكين وانتقال الأكل بين الضروس والأسنان. جرت العادةُ عندنا على الاختصارِ والاختزالِ، وعلى إطلاقِ الأوصافِ المُوجَزَة التي يَسهُل استعمالها، وتلك مَيزةٌ لُغويةٌ لا تُنكر. على كل حال، دَرَجَ كثيرون في عهودٍ سابقةٍ على أن يتناولوا طقتين أو ثلاث ما بين الصباح والمَساء، ثم إذا بالعدد يتقلَّص في وقتنا الحالي إلى طقَّة واحدة؛ وإذا بالطقَّة الواحدةِ تتحوَّل إلى مُعضِلَة حقيقيَّة يتوجَّب يوميًا حلُّها.
• • •
إذا قيل طقَّ فلانٌ من أجنابه فدلالةٌ على أنه قد جاوز حدَّ الانفجار؛ غضبًا ربما أو غيظًا. الكلمةُ هنا مجازٌ يُفيد شدَّةَ الانفعال، والانفعالُ يُؤدي فيما يُرجى إلى تَصَرفٍ يليق به، أو على أقل تقدير يُفرغه ويُخفّف من حدَّته.
• • •
بعضُ المرَّات قد يَسقُط المرءُ جرَّاء شعوره بالكمَد، يفقد حياتَه في لحظاتٍ، ويُقال حينها: طقَّ مات. هذا الذي طقَّ أو أصيبَ بسَكتةٍ قَضَت عليه؛ كان مِن قَبل مُفعمًا بالأحاسيسِ لا بليدَها، مُتجاوبًا مع الأحداثِ لا مُنعزلًا عنها أو مُحتفظًا بمسافةٍ بينه وبينها، ورغم أن البلادةَ تقي المَرءَ كثيرَ الأذى، وتجعله راضيًا أو فلنقل مُحايدًا تجاه ما يجري مِن حوله مَهمًا كان؛ إلا أنها تحيلُه في الوقتِ ذاتِه إلى قطعةِ حَجَرٍ لا تحملُ من الصفاتِ البشريَّة ما يُسبِغُ عليها سماتِ الكرامة والكبرياء.
• • •
قد يُوصَف شخصٌ بأن مُخه "طاقِق" والكلمةُ لا تَرِد على حالَها هذه في معاجمِ الُّلغة العربية؛ لكنها مُتداولةٌ بيننا، مُتواترةُ الاستخدام على الألسنةِ، وصحيحها "مُخه طاقٌّ" بتشديد القاف، وعادةً ما تُشير إلى شَخصٍ يرتكبُ أفعالًا جنونيةً حمقاء، وتصرفات يتعذَّر استيعابُ مَنطقِها، ولا غضاضة مِن الاعترافِ بأن المناخَ العامَ صار حافلًا بمثل هذه وتلك، وأن صفحاتِ الجرائد ووسائلِ التواصُل الاجتماعية تحمل إلينا من صباح إلى التالي أخبارًا؛ بعضها يُوقف الشَّعر في الرؤُوسِ فزعًا، وبعضها الآخر تتَّسع له الأعينُ دهشةً وعجبًا، منها ما يأتيه أناسٌ عاديون من واقع فُقدان التماسُك وانهيار القُدرة على ضَبْطِ النَّفس، ومنها أيضًا ما يرتكبُه أشخاصٌ يُفترَض أنهم عاقلون.
• • •
إذا أراد الواحد أن يُعلنَ عدم اكتراثه بوجودِ آخر، قال عنه في استهانة: يطقّ، والقصد من التعبير المُكثَّف البليغ أن: دعوه يَفعل ما يَستطيع، ذلك أن رأيَه وعَملَه لا يُهِمَّان، وأن أقصَى ما يتأتّى له أن يَعترضَ؛ دون أن يُسفر اعتراضُه عن أثرٍ مَرأيّ، فقط صوت لا يُنتِج ضَررًا ولا يُوقع أذى. الأذى الوحيد يكون في العادة من نَصيبِ هذا الذي لا تُعجبه الحالُ والذي يُوشك أن يَطقُّ، والحقُّ أننا كثيرًا ما نتلقى الردَّ ذاته بصورة ما؛ فأكم من مُناشداتٍ ومُطالباتٍ لا تجد اهتمامًا أو حتى صدى، وأكم من اعتراضاتٍ واستنكاراتٍ لا يُقابلها سوى صَّمت وتجاهُل.