وجه آخر للإلحاح - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 12:37 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

وجه آخر للإلحاح

نشر فى : السبت 14 مايو 2011 - 8:45 ص | آخر تحديث : السبت 14 مايو 2011 - 8:45 ص

 كنت أتصور دائما أن الإلحاح صفة ثقيلة تبعث على الضجر وأنها أحيانا ما تستفز الآخر وتغضبه، بل ربما تأتى بنتائج عكسية، لكننى يوما بعد يوم أتثبت من خطأ هذا الاعتقاد، وأكتشف جدارة الإلحاح باحتلال قمة المؤثرات، القادرة على إحداث تغيير إيجابى، ليس على مستوى العواطف فقط بل فى مختلف جوانب الحياة.

إلحاح الطفل المتواصل يصيب من حوله بالضيق والتوتر، لكنه يأتى له فى أغلب الأحيان بما يريد حتى وإن لم يكن مناسبا، يلح الطفل فيحصل على غايته تجنبا للإزعاج والصخب المستمر.

إلحاح المحب يلفت نظر المحبوب ويجتذبه حتى وإن كانت مشاعره محايدة، بل إنه أحيانا ما يستميلها. لا يتوقف الأمر عند هذا الحد، اختبرت بعض الأبحاث العوامل التى تؤثر فى إعجاب شخص بآخر، ثم خرجت بنتائج غير متوقعة: الإلحاح والإصرار قد يثيران الإعجاب بما يفوق تشابه الأفكار والميول، والجاذبية الجسدية وكذلك المهارات والمؤهلات المميزة. قد ينشأ الإعجاب بين الأشخاص المختلفين فقط بسبب الإحساس بالألفة، إحساس ينمو بمرور الوقت مع الإصرار على الاقتراب وإعلان الوجود.

•••


على مدى السنوات أثبت الإلحاح التفوق ذاته كلما تعلق الأمر بالمطالب العامة سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية. فى الهند خاض غاندى نضالا ضاريا ضد الاستعمار البريطانى بكل ما مارسه من انتهاكات وتفرقة فى المجتمع. تعرض مرارا للاعتقال الذى شمل أيضا أتباعه، لكنه بقى مثابرا إلى أن انتزع مطالبه واحد تلو الآخر. شرع فى الامتناع التام عن الطعام حتى تمكن من إلغاء نظام التمييز الانتخابى، وتمكن أيضا من إلغاء بعض الامتيازات البريطانية التى استنزفت الثروات المحلية. استقلت الهند وبقى غاندى نموذجا مُلهما للتحدى والإصرار.

فى جنوب أفريقيا تصدى مانديلا لقيادة حملات مستمرة قاوم من خلالها سياسات الفصل العنصرى. رغم اعتقاله المتكرر فى النصف الثانى من القرن العشرين، ورغم الحكم عليه بالسجن مدى الحياة، لم يتخل مانديلا عن قضيته طيلة ما يقرب من ربع القرن. ظل يكافح من داخل محبسه دون ملل ودون أن يفقد الإصرار، وقد نجح وأطلق سراحه وحكم وحصل على نوبل للسلام وترك الحكم بإرادته.

•••


يثبت الشارع المصرى منذ الخامس والعشرين من يناير أنه هو أيضا قادر على الضغط وعلى فرض إرادته ونيل مطالبه بالإلحاح عليها. منذ فترة وجيزة أُجبِرَت الحكومة على تجميد عمل أحد المحافظين رغما عنها، وهو إجراء ربما لم يتم اتخاذه من قبل. أذعن رئيس الوزراء لمطلب المعتصمين الرافضين للمحافظ، بعد أن أصروا على موقفهم رغم محاولات التفاوض والتهدئة.

على الجانب الآخر، حاز مطلب محاسبة الفاسدين نصيبا كبيرا من الإلحاح والتركيز، فى كل يوم جمعة من جمعاتنا المتعاقبة، لم يكن ميدان التحرير يخلو من شعارات ولافتات وحناجر، تُطَالِب بمحاكمة هؤلاء الذين تسللوا واحتالوا واستولوا على ثروات هائلة بطرق غير مشروعة، تضخموا وتركوا ما يقرب من ربع المصريين على خط الفقر. فى كل صحيفة كان هناك رسم أو مقال أو تحقيق عن الفساد الذى طال كثيرا من القيادات السابقة للدولة. على كل مقهى وفى كل شركة ومصنع ومؤسسة، أخذ الناس يسعون وراء المستندات والوثائق ويطالبون بالتحقيق فى الوقائع وتنفيذ العقاب.

لم يتضاءل الإصرار بمرور الوقت، بل تصاعد مع فتح ملف تلو آخر ومع ظهور مزيد من المشكلات. استخدم الناس المثل الشعبى البليغ (الزن على الودان أَمَرّ من السحر) بجدارة، ونجحوا أخيرا فى نقل كبار المسئولين السابقين إلى خانة كبار المتهمين، الذين يخضعون للمحاكمة والحساب. الإلحاح المتواصل جعل المستحيل ممكنا وقريبا.

ترى ما الذى يدفع الناس للالتفاف حول هدف أو مطلب ما والإلحاح عليه؟ ربما هى قابليته للتحقق وإحراز نتائج ملموسة وليست نظرية، أو إمكانية حصد ثماره فورا دون الحاجة إلى انتظار طويل، وقد يكون الدافع كذلك هو الإشباع النفسى والرضاء الذى يتولد عن الوصول إليه. إنه فى النهاية التماس المباشر بين الهدف والمزاج العام.

إحالة قضايا الفساد إلى التحقيق، وحبس المتهمين فيها، أمر أمكن مع الضغط الشعبى تنفيذه فى وقت قصير نسبيا، ودون مواجهة صعوبة كبيرة. الخطوات والإجراءات أتت متعاقبة لتشبع رغبة عامة معلنة تميل إلى الانتقام وتحقيق العدالة التى تلكأت طويلا.

هلا نظرنا إلى الجانب المقابل؟ بعض الأهداف التى رفعتها الثورة لم تحظ بنفس القدر من إصرار الناس؛ تشكيل مجلس رئاسى ورفع حالة الطوارئ وإقامة دولة مدنية كانت مطالب مطروحة لبعض الوقت ثم خَفُتَ وَهَجُها تدريجيا. لم يحدث عليها إجماع حماسى ربما لأنها لم تستوفِ الشروط السابقة، فهى مطالب لا تخاطب المزاج العام، لن تسفر عن نتائج فورية يمكن لمسها على أرض الواقع، ولن تشبع رغبة ملحة أو تداوى وجعا، أو تهدئ من مشاعر متقدة وثائرة.

•••


تكشف الدراسات أننا نميل إلى الإعجاب بمن يعجبون بنا ونعجب بمن هم أكثر إصرارا وإلحاحا على عواطفنا، وبمن نراهم أمامنا مرارا وتكرارا، ويقول الباحثون فى هذا المجال أنه إذا لم تكن تملك كثيرا من المؤهلات والمزايا وكان إعجابك بشخص آخر هو إعجابًا من طرف واحد وليس متبادلا، أصرر على إعجابك وتمسك به وألحح عليه وابق دائما فى الجوار فالقرب والألفة هما السلاحان الأمضى قوة للفوز برضائه ومشاعره.

على كل الأصعدة يُثبِتُ الواقع المِثلَ، إذا كان لديك هدف مُحدد فلا تيئس أبدا من إمكانية تحقيقه مهما بدا بعيدا وعسيرا. الإصرار على طرحه والتشبث به يكسبانه الشرعية ويجعلانه بمرور الوقت مقبولا ومتاحا. شخص واحد فقط قادر بالإلحاح والإصرار على جذب الناس نحو فكرته، والتفاف الناس حول الفكرة يعطيها بريقا ومصداقية أكبر، وإجماع الحشود المتزايدة على شىء واحد مشترك يُكسِبُها ثقة هائلة فى إمكانية تحقيقه.

فى السياسة كما فى الحب والإعجاب، البقاء للأطول نَفَسًا والأوضح هدفا، والأعتى إصرارا.. لمن لا يتراجع أو ييئس أو يَكِلُّ.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات