النعامة - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 12:35 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

النعامة

نشر فى : الجمعة 14 يوليه 2017 - 8:05 م | آخر تحديث : الجمعة 14 يوليه 2017 - 8:05 م
نصيحة يقدمها صديق لآخر أو تسديها امرأة لصديقة؛ لا تدفن ــ أو لا تدفنى ــ رأسك فى الرمال كما النعامة. المُراد أن تؤدى النصيحة بالمَنصوح إلى مواجهة حقيقة يمتنع عن مواجهتها؛ يخشاها أو يخجل منها أو يرفض الاعتراف بها. قيل قديما إن النعامة تهرب من المخاطر المُحدقة بها بوسيلة مُضحِكة؛ إذ هى تضع رأسَها فى فجوة تصنعها بالأرض، فإذا بها تغمض عينيها وتتجنب المواجهة المُحتمَلة، بينما يبقى جسدها الضخم ماثلا أمام العدو، سائغا لمخالبه وأنيابه، سانحا لرصاصاته وسهامه.
*** 
النعامة أكبر طائر موجود إلى وقتنا هذا على وجه الأرض. لا تطير ولا تجوب السماء، لم تعرف يوما التحليق ولا فردت جناحيها وعَلَت فى الأفق وتمتَّعت بترك الهواء يحملها هنيهة؛ هى طائر كاذب مثلها مثل طيور أخرى حبيسة الأرض، تفتقر إلى القدرة على الارتفاع ولا تغادرنا إلى الأفق أبدا، أسبغنا عليها الكذبة لمجرد أن لها ريشا، وأنها تبيض ولا تلد كما الثدييات وأن صفاتها التشريحية هى نفسها صفات الطيور الأخرى التى تتنقل فى الفضاء. 
***
تعدو النعامة بسرعة فائقة، سيقانها هائلة القوة، عنقها طويل وبصرها قصير وسمعها مُرهَف حاد، فإذا شعرت بخطرٍ قريب، رفست بقدميها ما فى محيطها، ونالت من العدو بأظفارها التى تعمل كسلاح مميت. الحقّ أن النعامة لا تنأى عن الخطر بالغوص فى الرمال كما تصوَّر الناس، بل إن مَسلَكها العجيب هذا مَرجِعه أنها تدفن بيضها فى حُفَرٍ تُعدها خصيصا لهذا الغرض، ومن حين إلى آخر تحنى رقبتها الطويلة المرنة لتُدخِل رأسَها فى الحفرة فتطمئن على البيض وتتابع عملية الفقس المُرتقَبة.
***
سذاجتنا وحدها هى التى جعلتنا نصدق ما أشيع عن مَسلَك النعامة، أو ربما وجدنا فى الشائعة ما يوافق هوانا وما يريح ضمائرنا، فمسلكنا إزاء المصائب والعوادى والنائبات إنما يشبه كثيرا ما اتهمنا به النعام، وإذا سبقنا إلى العزوف عن المواجهة والنكوص عن الدفاع عن أنفسنا طائرٌ أو حيوانٌ، فذاك مما يخفِّف الفجيعة ويقدِّم العزاء والسلوى والمواساة.
نربأ بأنفسنا عن رؤية واقع مرير ونأبى أن نرى مصدر التهديد. نشيح بوجوهنا بعيدا وننظر فى اتجاه آخر، ندفن عيوننا وأسماعنا ونهيل عليها ألف مبرر وألف سبب كى لا نواجه الحقيقة. نتبع أسلوب دفن الرءوس وإسدال الحُجُب على أدمغتنا فى كثير من المواقف؛ شخصية كانت أو عامة. تُكذِّب المرأة نفسها وتغلق عينيها عن خيانة قطعت طريقها ويصُمّ الرجل أذنيه عن إهانة طالته أو مَذَلّة تعرَّض لها، ويفعلان المثل فى مواجهة طغيان أكبر وخطر وتهديد أعظم. الهروب اختيار مشترك، وهو فى الوقت ذاته ليس هروبا كاملا فأجسامنا ظاهرة للعدو وصدورنا وأخيراتنا مكشوفة للعيان، مع ذلك نتعامى عن أزمتنا ونتجاهلها وكأننا فقدنا الحواس كافة. الرمالُ أمانٌ وقتىّ وراحةٌ نفسية، لكن كليهما للأسف لا يدوم طويلا فسرعان ما تزيح الرياحُ الكثبانَ وترغمنا على رؤية ما ظننا أنّا دثرناه وانتهينا منه.
***
تعرَّض النعامُ إلى الصيدِ الجائرِ حتى أوشك على الانقراض، لكن مَبعَث تناقُصه المُطّرِد فى أنحاء العالم ليس خيبته وعجزه عن حماية نفسه ولا قلة حيلته فى مواجهة أعدائه، بل كونه هدفا عزيزا للصائدين الطامعين فى ميزاته ومحاسنه. لحم النعام وريشه من أمارات الرفاهة ودلالات الثراء، يُقال إن الأول ذو محتوى منخفض من الكولسترول ولذلك يُعدُّ صحيا آمنا بل وشافيا من بعض الأمراض، أما الثانى فقد اتخذه سادة الناس زينة لهم لتساوى أحجامه وتماثله وجمال منظره. بيض النعام كذلك من أطايب الطعام لدى أثرياء الناس، وقد حَلَّ ضيفا كريما فى وقت من الأوقات على المتاجر الكبرى التى تنتشر فروعها فى الأحياء الراقية؛ بيضةٌ كبيرةٌ لونها ضارب إلى الصفرة، وثمنُها ضاربٌ فى السماء. 
***
يأكل النعامُ الحصى والرمال كى يتأتى له هضمُ طعامه، وربما كان هذا هو وجه الشبه الأساسىّ بينه وبين عامة البشر، فكثيرنا فى السنوات الأخيرة يطْعم الرمالَ ويتناول يوما بعد يوم ما توافر مِن الحصى. لا فارق فى هذا بين الفصيلين؛ نعامٌ وإنسان، سوى أن أسنان الأخير تتكسر خلال محاولة الطحن وأن أحشاءه تتلوى جراء ابتلاع ما استعصى على المضغ وأنه وهو الأهم؛ قادر على بَصقِ ما يؤذيه.

 

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات