ليس من الحيوية الفكرية أو حرية التعبير الإساءة فى الحديث، ولاسيما إذا طال رموزا فى المجتمع. لا يعنى ذلك خلق «تابوهات» أو إضفاء «عصمة» على الأشخاص، ولكن استخدام لغة مهذبة فى الحديث تخلو من التشكيك أو التخوين أو الاستهانة. فى المجتمع الحديث لا توجد قضية لا تخضع للنقاش، ولا يصح فى القرن الحادى والعشرين أن نقول للأجيال الشابة أن هناك موضوعات محظور تناولها، ولكن تظل المسألة رهن بسياق ولغة وأسلوب النقاش.
لاحظت ــ منذ فترة ــ أن البابا تواضروس يتعرض إلى ما يمكن تسميته «ترصد ممنهج» على الفضاء الالكترونى من جانب مجموعات من الأقباط، بحيث لا يرد حديث على لسانه، أو موقف يقوم به إلا وكان محل نقد شديد بلغة لا تخلو من تجاوز فى حقه. وعندما نجد تربصا يواجه البابا تواضروس من جانب التيارات المناوئة للتحول الذى حدث فى 30 يونيو، ليس وحده بل مع غيره من رموز سياسية ودينية، فهو أمر مفهوم فى دوافعه، أما أن يأتى الترصد لشخصه من جانب بعض الأقباط فهى مسألة تبدو غير مبررة فى دوافعها أو حتى مفهومة.
أظن أن هناك بعدين أساسيين:
البعد الأول: أن البابا تواضروس، من واقع معرفة ولقاء، شخصية وطنية، هادئة، منفتحة، متزنة يريد أن يحتفظ للمؤسسة الكنسية بطابعها الروحى، وفى الوقت نفسه يساند القضايا الوطنية العامة، ويسعى إلى أن يكون الأقباط جزءا من الكيان المصرى. وتقدر القيادة السياسية مواقفه الوطنية، ويكفى تصريحه الشهير فى أعقاب الاعتداء على الكنائس والمنشآت الدينية فى عام 2013 عندما قال «وطن بلا كنائس، أفضل من كنائس بلا وطن». فقد جاءت نتائجه واضحة، حيث لم تقم الدولة بإصلاح الكنائس المٌعتدى عليها فقط، بل قدمت أيضا عددا من النماذج المهمة فى بناء كنائس، ومظاهر إيجابية أخرى لا يتسع المجال للخوض فيها. وهو أمر إن كان يٌحسب للقيادة السياسية، فهو أيضا مرده إلى حسن إدارة البابا تواضروس للمواقف الصعبة والأزمات.
البعد الثانى: أن البابا تواضروس يهتم بالتحديث، وتطوير المؤسسة الكنسية، وتحقيق الانفتاح على العالم الخارجى، وهى من القضايا المهمة فى التطوير المؤسسى لجميع الهيئات الدينية، ومن الطبيعى أن يثير التحديث نقاشات، واختلافات فى الرأى، ورغبة من جانب البعض فى التطوير، تقابلها رغبة من جانب البعض الآخر فى بقاء الأمور على ما هى عليه. هذه مسألة طبيعية، تمر بها جميع المجتمعات، ومن يطلع على النقاشات التى تناولت الممارسات الدينية فى العديد من دول العالم فى أعقاب انتشار فيروس «كوفيدــ19» سوف يكتشف إلى أى حد الحياة متغيرة، والذهن ينبغى أن يتجدد، والحيوية الفكرية ضرورية. إذن النقاش حتمى، لكن سيظل الأمر رهنا بالسياق الذى يجرى فيه. فى رأيى أن قضايا الشأن العقيدى أو الطقسى أو التنظيمات الداخلية للمؤسسات الدينية ليس محلها مواقع التواصل الاجتماعى، التى يختلط فيها أحيانا الجد بالهزل، ولا توجد ضوابط على الحديث، بل المكان الطبيعى للنقاش هو داخل المؤسسات ذاتها من خلال قياداتها، والباحثين، والدارسين، والمهتمين، وهنا يصير ضروريا فتح مجالات النقاش الداخلى، بحيث يصبح دور الإعلام ــ بصوره المتعددة ــ هو تنوير الناس، وليس إثارة الشكوك، والتنابذ بالكلام، ونشر الأحقاد، وتجاوز حدود اللياقة.