تَحت القَصف - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 12:39 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

تَحت القَصف

نشر فى : الجمعة 14 أغسطس 2020 - 9:45 م | آخر تحديث : الجمعة 14 أغسطس 2020 - 9:45 م

للكتابةِ عند كثير الكُتَّاب والمُفكرين طُقوسٌ وعادات. البعضُ يُفضّل مكانًا بعينِه، يُرتبه بما يوفر الراحةَ ويجعل الحروفَ سهلةً والأفكارَ مُتعاقِبةً، والبعضُ الآخر يُفضّل توقيتًا مُحدَّدًا؛ تأتي فيه الكلماتُ دون جهدٍ وتنساب. هناك مَن يَصحو فجرًا ليكتُب ومَن يَميل إلى هدوءِ الليالي، ومَن لا فارق عِنده بين صباحٍ ومساء.
***
أعرف مَن يكتُب بعضَ الأحيان مقالتَه راكبًا السيارة، ومَن لا بُد وأن يحضُرَه فنجانُ القهوةِ، مَن تجري أصابعُه مُباشرةً على لوحةِ الأزرارِ ومَن لا يزال مُتمسكًا بالورقةِ والقلمِ؛ يكتُب ويَحذِف ويُضِيف ويَصنع أسهُمًا وعلاماتٍ، ثم يُعيد الكتابةَ مع التنقيح.
***
تَغيير العادةِ قد يُفسِد الكتابةَ ويؤجلُ حضورَ الأفكارِ ويشَتتُها؛ لكنَّ التكرارَ هو الأخر قد يُورِثُ الكاتبَ نفسَه المَللَ، ويَجعل العباراتِ مُتشابهةً والمَعاني مُترادفةً، حتى ليتصورَ قارئُها أنه قد رآها مِن قبل.
***
قد يضطرُّ نَفَرٌ مِمَن تُمَثل الكلماتُ وسيلةَ عيش لا يعرفُون غيرها، أن يكتُبَ في ظروفٍ صَعبةٍ، بل ربما شديدة الخُطورةِ؛ صحافيون في مناطقِ حَرب، مُراسلون في بلدانٍ تموجُ بالاضطراباتِ؛ مُهدَّدون بالاغتيالِ إن هُم كشفوا ما عرفوا مِن وقائعِ فساد، أو إن هم تشبَّثوا بمُعارضةِ السُلطة وانتقادِ النظام. هؤلاء كُثرٌ في أنحاءِ المَعمُورة؛ مُوزَّعون بين أرجائِها، ومِنهم مَن قضى نحبَه بالفِعل؛ إذ لم يرضَخ لرسائلِ التخويفِ؛ ما بين صحفية عاشت بأحد بلدانِ أمريكا اللاتينية إلى كاتب مِن دولةِ خليج؛ أميال طويلة، ومسافات شاسعة، أما المصير فواحد.
***
تستعصى الكتابةُ بعضَ الأحوالِ بلا سَببٍ ظاهر، تتمنَّع على صاحبِها إلى أن يتركَها يائسًا مَخزولًا، وفي أحوال أخرى تهجِم وتفرضُ نفسَها فرضًا؛ ولو لم يكُن الظرفُ مُواتيًا.
***
كَتَبتُ أكثر مِن مرةٍ عن أشجارٍ تُقتَلَع مِن جُذورِها ومساحاتٍ خضراء تتحوَّلُ إلى إسفلت أسوَد، وعن شوارع تتسِع وتبتلع سياراتُها المُسرعةِ العابرين. كَتَبتُ مَدفوعةً بالوَضعِ الذي انقلبَ رأسًا على عَقب، وبالقُبح الذي استشرى في الحيّ القديم، ولم تكُن الكتابةُ بغرضِ وَقفِ مأساةٍ حَلَّت وحطَّت فوقَ الرؤوس؛ فلا صَوت كما جَرَت العادةُ يُسمَع ولا حقُوق تُصَان؛ إنما في الكتابةِ ملاذٌ، اقتسامٌ للهُمومِ وتَفريج. هي كذلك فعلٌ نُرضي به أنفُسَنا، ونُحاوِل إقناعَها بأنّا قد أدينا ما علينا وقاومنا ولم نكتفِ بالصَّمت والاستسلامِ الكريه.
***
أكتبُ مِن جديدٍ عن مَحوِ الأخضرِ؛ لكنَّ الكتابةَ هذه المرة تتعثَّر تحتَ القصفِ؛ إذ وَصَلت الجرَّافات أمام البيت، وراحت تجتثُّ مِن الأرضِ كُلَّ حيّ حتى الساعاتِ الأولى مِن الصباح، بينما الناس في الشُرفاتِ يُمصمِصون الشفاهَ وَيضرِبون كفًا بكف، منهم من يُخرِج مَحمولَه ليلتقطَ صورةً، ويكتُب هو الآخر كلمةً على أحد مواقع التواصل الاجتماعية؛ عساها تُشفي غليلَه، ومَن يُخاطب عمالَ التجريفِ والمُشرفين عليهم لعلَّ في الضميرِ بقية، ومَن يُحاوِل إبعادَ سيارته مِن مَوقع المَقتلة التي دارت بلا تمهيد، ودون سابق إنذار.
***
اللافتاتُ التي انغرَسَت فجأةً في قلْبِ الأرضِ تقول: "كوبري".. مشروع كوبري جديد. ما جالَ بخاطري كلَّما ضاقت؛ إلا كلمات غنَّاها الشيخُ إمام منذ عقودٍ خَلَت، حفِظها مَن سمِعها لصِدقِ المعاني، وردَّدها مُواساةً لحالِه مَراتٍ لا تُحصى؛ جَهرًا ما استطاع أو تَمتَمة.
***
هذا الصباح صامتٌ صَمتَ القُبور، لا زقزقات ولا هَديل؛ فقد هَربَت العصافير من أعشاشِها ورَحَلَت اليماماتُ إلى غيرِ رَجعةٍ..

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات