أثار اقتحام السفارة الإسرائيلية فجر السبت 10/9 الكثير من ردود الأفعال على المستويين الدولى والمحلى، بدءا بمغادرة السفير لمصر فى هذه الليلة ورد الفعل بالغ السرعة من قبل الإدارة الأمريكية وانتهاء «بتفعيل» قانون الطوارئ من قبل الحكومة المصرية. وعلى أهمية فهم ما حدث على الصعيد الإقليمى والدولى إلا أن ردود الفعل على المستوى المحلى تبدو أولى بالمناقشة الآن.
تراوحت ردود الأفعال بين تجريم ما حدث بدعوى أنه نوع من البلطجة أو أنه «مؤامرة» تم الدفع بالبعض إليها أو على الأقل استدرج فيها، أو أنه يخل بالتزامات مصر الدولية وحتى من الممكن أن يدخلها فى حرب ــ ضد إسرائيل ــ وهو ما لا طاقة لنا به. ورأى البعض أن ما حدث يحرف الثورة عن مسارها الصحيح وربما يكون ذريعة لتأجيل انتقال السلطة لنظام مدنى منتخب ــ عضد هذا التخوف ما أعلن مؤخرا عن تفعيل قانون الطوارئ واقتحام ومنع بث قناة الجزيرة مباشر. أما الجزء الأكثر عجبا من ردود الأفعال فهو الجزع الشديد عند البعض من أن ما حدث سوف يؤثر سلبا على صورة الثورة المصرية فى عيون العالم، الذى انبهر بسلميتها ومطالبها «المتحضرة».
والحقيقة أن كل من هذه الآراء يعكس جزءا مختلفا مما أتصور أنه أزمة ليس فقط فى فهم الثورة ولكن أيضا فى تقدير الذات الجماعية. فمع إقرار أن تعامل السلطة الحاكمة مع الموقف يدعو إلى الشك والتساؤل (فمن بناء سور عازل أمام السفارة إلى تركها تماما حتى يتم الاقتحام ثم التعامل بعنف مفرط مع المتظاهرين وقتل واحد منهم)، إلا أن الدفع بأن ما حدث لا يعدو كونه «مؤامرة» أو «بلطجة» إنما يبخس الإرادة الشعبية حقها وأهميتها. فالعداء لإسرائيل سابق على الثورة، بل إن إرهاصات هذه الثورة بدأت مع الحراك الشعبى ضد إسرائيل ودعما للانتفاضة الفلسطينية الثانية فى عام 2000. وبالرغم من آلة إعلام السادات ومن بعده مبارك، ظل الجزء الأكبر من الشعب المصرى محتفظا بعدائه لإسرائيل ورافضا لمعاهدة سلام لم يوافق عليها وانتقصت من سيادته الوطنية.
وبالتالى فحين تهدر كرامته وسيادته الوطنية مرة أخرى بقتل الجنود المصريين داخل الحدود، دون أن يكون هناك رد فعل رسمى حاسم تجاه ما حدث فمن الطبيعى أن يكون هناك رد فعل شعبى موجه ضد الطرفين: من اعتدى ومن تساهل فى الحساب. أما القول بأن ما حدث رغبة مشروعة تم التعبير عنها بوسائل غير مشروعة ــ اقتحام السفارة ــ فإنما يتناسى أن الثورة ــ أى ثورة ــ تستخدم فيها وسائل متعددة ليست بالضرورة مما ترضى عنه الطبقة الوسطى أو تتعالى عليه.
فتحرك الجماهير له منطقه الخاص وقانونه الذى لا يفرض عن طريق النصح والإرشاد ولكن عن طريق تفعيل هذه الإرادة بوسائل أخرى، فإن لم توجد يصبح من العبث العتب على هذه الجماهير.
أما بخصوص أن ما حدث يحرفنا عن «مسار الثورة» فهذا يحتاج إلى تحقيق ما هو مسار الثورة أصلا؟ فهذه الثورة أوسع من أن يتم اختزالها فى مجرد عملية تحول ديمقراطى، كما يحلو للبعض تصويرها. فهى مشروع تحرر وطنى يسعى إلى تحقيق العدالة والكرامة والحرية، والنظام السياسى الديمقراطى هو سبيل لتحقيق هذه الأهداف وجزء وليس كل مطالب هذه الثورة.
وتبقى الكرامة الوطنية جزءا أساسيا من مسار هذهالثورة يتم التأكيد عليه شعبيا حينما تقتل إسرائيل جنودا مصريين، وتهين السعودية المعتمرين المصريين فى أراضيها، وتقتل الشرطة متظاهرا مصريا فى نفس الليلة. هذة الإرادة الشعبية تحاول أن ترسل رسالة واضحة أن مسار العلاقات الدولية لمصر الثورة يجب أن يعكس إرادة شعبها وليس حكامها غير المنتخبين. فالقول بأن هذا يتنافى مع متطلبات المرحلة، ويمكن أن يسهل لاستقرار حكم ديكتاتورى جديد، وكأنما يتصور أن اللاعب الوحيد على الساحة السياسية هو النخبة الحاكمة، وكأننا لسنا فى حالة ثورية دخلت الجماهير فيها كطرف أساسى فى معادلة السياسة وإمكانية الحكم. ففى الوقت نفسه، الذى تعلن فيه الحكومة «تفعيل» قانون الطوارئ يعلن الآلاف الإضراب.
أما الأكثر عجبا وإيلاما فى ردود الفعل على المستويين الإعلامى والسياسى فهو هذا الجزع الشديد من رؤية «العالم» للثورة المصرية. والعالم فى هذا التصور مقتصر على أوروبا والولايات المتحدة، لأن العالم العربى على المستوى الشعبى ثمن ما حدث وحتى على مستوى دول الجنوب مثل تركيا وفنزويلا وإيران سبق وأن تصدوا للصلف الإسرائيلى.
طبعا من المفهوم أننا لا نعيش فى جزر منعزلة وأن التضامن الدولى مهم فى أى تحولات سياسية كبرى، ولكن حينما يتحول هذا إلى هوس برأى الاّخر فينا، فإنه يصبح تعبيرا عن حالة استعمارية ترى فى «الغرب» المحدد لمقياس التحضر.
وحتى على المستوى السياسى، يتناسى هذا الطرح أن الأنظمة الغربية دعمت نظام مبارك ثلاثين عاما وأن الدعم والتضامن الدولى مع الثورة يأتى من الشعوب وليس من الأنظمة، وأى عاقل فى هذه الشعوب يتوقع منه أن يزن الفعل (قتل مصريين) فى مقابل رد الفعل (اقتحام مقر سفارة خال).
ولنتذكر أن المتظاهرين فى لندن ومدريد اعتدوا على السفارة الإسرائيلية فى هذه العواصم فى وقت المظاهرات الرافضة للحرب على غزة، ولم يصفهم «العالم» بالبربرية.
من المخجل أن تكون محددات تقييم الفعل الجماهيرى فى ثورة خرجت لتطالب بالكرامة هى رد فعل المجلس العسكرى أو باراك أوباما. ومن المؤسف أن يتم اختزال إجبار السفير الإسرائيلى على ترك مصر ــ حتى وإن كان مؤقتا ــ فى أنه عملية عنف وتخريب. فلنعد التقييم.