ثارت فى الفترة الماضية أخبار كثيرة حول عمليات التنصت والمراقبة، كان للولايات المتحدة منها نصيب الأسد بعد أن كشف الشاب الأمريكى سنودن فضيحة تَجَسُّسِها على مواطنيها، وجمعها بيانات ومعلومات عن اتصالاتهم، ورسائلهم الشخصية عبر ثلة من المواقع الإلكترونية الشهيرة.
كشف سنودن أن وكالة الامن القومى الأمريكية تمارس التَجَسُّسَ على نطاق واسع منذ سنوات، وأنها تملك برامج متقدمة للتعامل مع مواقع الشركات الكبرى مثل جوجل وفيس بووك وسكايبِ وغيرها. لم يقف الأمر عند التَجَسُّسِ على المواطنين الأمريكيين، بل كشف سنودن ووثائقة السرية المُسَرَّبَة، إن عمليات التَجَسُّسِ طالت وزارة الخارجية الفرنسية، ومراسلات الرئيسة البرازيلية ديلما روسيف والرئيس المكسيكى إنريكى بينيا نييتو، كما طالت المقر الرئيسى للأمم المتحدة ذاتها، وقد ظهر تقريرٌ لإحدى الهيئات الأمريكية المهتمة بالعلوم؛ يفيد إمداد الولايات المتحدة عددا من الأنظمة القمعية كالسودان وإيران، بأجهزة لمراقبة المواقع الإلكترونية والتَجَسُّسِ على النشطاء.
لم يعد الأمر قاصرا على الولايات المتحدة، فقد نُشِرَ مؤخرا خبرٌ طريفٌ نقلته جريدة الحياة، يدور حول قيام السلطات الروسية بالتَجَسُّسِ على مواقع التواصل الاجتماعية، واستغلالها فى مطاردة المواطنين المتأخرين عن سداد فواتير الهواتف والكهرباء، وقد قامت السلطات بإنشاء دائرة خاصة لجمع المعلومات عن هؤلاء المواطنين، ومعرفة الأمكنة التى يترددون عليها، حتى صارت قادرة على ملاحقتهم أينما ذهبوا. على نطاق أقل اتساعا، يواجه النائب العام المصرى السابق اتهاما جديا، بوضع أجهزة تنصت وكاميرات مراقبة فى مكتبه؛ تسجل حركات وإيماءات وأحاديث الزوار.
●●●
ربما تكون ظاهرة التجسس قديمة قِدَمَ الدهر، لكن هذا الهوس العام بجمع ما هو مُمكِن مِن معلومات، وأخبار، يبدو جديدا ومدهشا. تلك الشراهة نحو معرفة ما يفعل الآخر حتى ولو لم تكن المعرفة مفيدة، والسعى وراء ملايين التفاصيل التى تلوح تافهة لا قيمة لها، قد تشكل ظواهر تستحق الدراسة؛ ربما تنبع من إحساس متزايد بالخطر، أو مِن افتتان لا حدود له بوسائل التكنولوجيا التى تقطع فى تطورها شوطا كبيرا كل يوم، أو من شعور متعاظم بحق السلطة فى امتلاك ذوات الآخرين. ربما تعكس هذه الظاهرة أيضا طموحا إلهيا فريدا فى حيازة الأشياء كلها؛ وبَسطِ السيطرة المُطلَقَة على مُجرَيات الأمور وتوجيه دفتها مع عدم ترك أى احتمال أو هامش للخطأ.
●●●
هناك مَن هو مهووسٌ بالتجسس على من حوله، ومَن يشك فى وجود مَن يتجسس عليه. بعض الأشخاص يعيشون بأعراض فصامية يشعرون معها أنهم مراقبون دائما مِن آخرين فيتصرفون على هذا الأساس، لكن هذا العرض غالبا ما يكون مصدرَ شقاءٍ لهم والبعض الآخر يُرَحِّب بكونه مُرَاقَبا ولا يجد فى تَتَبُّعِ خطواته غضاضة وأحيانا ما يكون ممتنا لمراقبيه؛ نشرت مجلة الإكونومست البريطانية فى الشهر الماضى مقالة، تشير إلى تغير ميول الناس تجاه الحفاظ على أسرارهم وخصوصياتهم، واستشهد الكاتب فى هذا برد الفعل الشعبيّ الباهت على القنبلة التى فجرها سنودن، كما استشهد بضآلة نسبة المتعاطفين معه.
●●●
أذكر مشهدا قصيرا فى فيلم للمخرجة هالة خليل؛ تعترف فيه إحدى البطلات بأنها اعتقدت دائما فى وجود كاميرا تقوم بتصويرها طوال الوقت، حتى أثناء استخدامها دورة المياه، وأنها كانت تحرص على التجمل وعلى تهذيب شعرها كى تظهر صورها فى أبهى منظر. لم تُعَبِّر البطلة عن ضيقها بالرقابة اللصيقة ولا برغبتها فى التمرد على الكاميرا.
لا أدرى ما يكون عليه الموقف لو قررت الحكومة أن تراقب صفحات التواصل الاجتماعى الخاصة بالمصريين. أظن أن برامج المراقبة سوف تعلن سريعا عجزها أمام فيض المعلومات المتداولة بيننا، كما لن يتمكن القائم على التصنيف والتحليل ــ بشرا كان أو آلة ــ من التعامل مع هذا الكم من الوقائع المُتَخَيَّلَة والأخبار المُفتَعَلَة والنكات والقفشات المتدفقة؛ والحق أننا نستخدم مواقع التواصل الاجتماعية بشكل عجيب، نَصُبُّ فيها الترهات والسخافات التى نصادفها يوميا، ونُفرغ فيها أدق تفاصيل حياتنا، حتى تلك التى لا تهم أحدا على الإطلاق سوانا؛ يعلن شخص ما عن تقلصات معدته، وآخر عن انتهائه للتو من مشاجرة عائلية، وتشكو ثالثة حاجة حذائها إلى التلميع، ورابعة تبث شعورها بالملل من الموقع نفسه، وينقل خامس تصريحات مسئول صاغها نيابة عنه. وسط هذا كله تستحيل التفرقة بين ما هو جد وما هو هزل ويصبح التجسس أمرا عبثيا لا طائل من ورائه.
●●●
على كل حال، يرى الخبراء أن حجم المعلومات التى جمعتها وكالة الأمن القومى الأمريكية، لهو أكبر بكثير مما تصوروا، وإن هناك شكوكا حول استيلائها على المحادثات التى تمت عبر سكايبِ حول العالم وليس فى نطاق الولايات المتحدة فقط، كما توجد أيضا شكوك حول سطوها على مستندات جوجل، بيد أنه لا توجد حتى الآن دلائل أكيدة. شَبَّهَ قادة مجموعة البريكس ما تقوم به الولايات المتحدة من أعمال تجسس بنوع من أنواع الإرهاب، رغم ضلوع بعضهم فى أعمال مماثلة، وإن لم ترق إلى مستوى الفضيحة.
ربما يتصاعد هوس الأنظمة والحكومات بالتجسس، بينما توفر لها التكنولوجيا الحديثة أدوات أكثر تقدما وبراعة، وقد يقبل بعض الناس بالفكرة فى ظل إيهامهم بوجود مخاطر محدقة، وإشعارهم بالحاجة إلى التأمين، لكن أغلب الظن إن بشرا آخرين سوف يستمرون فى الدفاع عن خصوصيتهم وحرياتهم الشخصية، وسيخرج سنودن جديد كل يوم ليكشف الألاعيب، ويفضح الأخ الأكبر الذى يهوى مراقبة كل شىء.