أجدد المحاولة، لنفكر معا فى أسباب تراكم أزماتنا.
لن أبادر بتصنيف «أزماتنا» لكى لا أدفع بعضكم إلى التوقف عن القراءة، لن أبادر أيضا بفرض تقييم عمومى «لوضعنا» فى مصر ومطالبتكم بتبنيه. بدايتى اليوم من مكان آخر، لنبحث فى بعض التفاصيل المحيطة بحياتنا اليومية ونجتهد لتوصيفها ثم لتوظيفها لمعرفة طبيعة الأزمات المتراكمة فى مجتمعنا ولتقييمها على نحو قد يقارب بيننا وبين سبل القضاء عليها أو على الأقل لاحتوائها.
فى حياتنا اليومية، نصطدم جماعيا بالكثير من مظاهر الفساد الصغير والكبير؛ فى الشارع، فى مواقع الدراسة والعمل، فى الجهات الرسمية المسئولة عن الأحياء فى المدن أو عن القرى التى تعيش بها أغلبيتنا، فى أماكن البيع والشراء والنشاط التجارى. نصطدم جماعيا بمظاهر الفساد، وفى معظم الأحيان نبتعد عن مواجهتها ونسعى فقط للتعامل معها كمسلمات واقعية تستعصى على التغيير قد ننجح فى بعض الأحيان فى تحييد ضررها وحتما نفشل فى أحيان أخرى. إذا كان هذا هو موقفنا العام من الفساد، وإذا كنا نعجز عن أن نراكم مجتمعيا ما يمكننا من مواجهة مظاهر الفساد؛ فلماذا تصدمنا حقائق فساد الجهاز الحكومى وفساد بعض النافذين به وبعض المتعاملين معه من القطاع الخاص؟
فى حياتنا اليومية، نصطدم جماعيا بالكثير من إضاعة الوقت والطاقة فى غير مجالات توظيفهما المثلى. نحن نضيع الوقت والطاقة فى المجال الخاص، فى كل قطاع حيوى فى المجتمع من المدرسة والجامعة إلى المستشفى والشركة والبنك وديوان الوزارة، فى كل لحظة وظرف وبامتناع عنيد عن إدراك الأضرار والسلبيات التى نلحقها بأنفسنا وبعموم الناس. إذا كنا نتورط فى الامتناع عن تجاوز داء إضاعة الوقت والطاقة، إذا كنا نرفض إدراك العلاقة بين الداء هذا وبين إخفاق الكثير منا فى تحسين ظروفه المعيشية وأوضاعه الاقتصادية والاجتماعية وبينه وبين ابتعادنا المطرد عن المجتمعات المتقدمة والمجتمعات التى وضعت أقدامها على مسارات تنمية مستدامة؛ فلماذا تصدمنا حقائق إضاعة الوقت والطاقة من قبل الجهات الرسمية والجهاز الحكومى والمؤسسات التى يديرها؟
فى حياتنا اليومية، نصطدم جماعيا بالكثير من الإهمال ومن غياب قيم الالتزام والإتقان والرغبة الدائمة فى التطور والتحسن ورفع معدلات جودة الأداء. نحن نعيش فى منظومة مجتمعية جوهرها الإهمال ونكرسها بتورطنا فى الإهمال وباستساغتنا له حتى تطولنا تداعياته الكارثية، هنا أيضا فى الشارع الذى يغتال الإهمال المسيطر عليه أحيانا حقنا فى الحركة الآمنة وأحيانا حقنا فى الحياة، فى المدرسة والجامعة والمستشفى التى يرتب الإهمال بها تدنٍ مأساوى فى مستويات الخدمات التعليمية والصحية، فى مواقع العمل الحكومية والخاصة وعبر القطاعات التقليدية والحديثة التى لم نعد نتميز فى أى منها ــ فمعمارنا بات خاليا من الجمال، وزراعتنا فاسدة ومتراجعة، والقطاعات الخدمية والصناعية والتكنولوجية عاجزة عن أن تنافسا إقليميا ناهيك عن عالميا. إذا كنا نكرس المنظومة المجتمعية للإهمال ولغياب قيم الالتزام والإتقان والبحث عن سبل التطور، إذا كنا نقبل فى مجالنا الخاص ومجالنا العام أن يحاصرنا الإهمال ولن نتيقن من ضرورة مواجهته؛ فلماذا تصدمنا حقائق الإهمال الرسمى والحكومى والمؤسسى؟
فى حياتنا اليومية، نصطدم جماعيا بالكثير من القيود وبالكثير من صنوف القمع اللفظى والجسدى التى تمارسها فئات تمكنها حقائق مجتمعنا من السيطرة والتسلط على فئات تجبر على الوهن والخنوع وقبول القيود والقمع كمصائر لا فكاك منها. نحن نعيش فى مجتمع يقبل تسلط الرجال على النساء، لا يمتعض طويلا إزاء التمييز ضد النساء والأطفال وذوى الاحتياجات الخاصة وكبار السن والفقراء، لا يحرك ساكنا حين يستمر إفلات رجال يتورطون فى العنف الجنسى والمنزلى ضد النساء والأطفال من العقاب وإفلات أصحاب أعمال صغيرة وكبيرة على الرغم من جرائم الاستغلال التى يرتكبونها بحق الفئات الضعيفة من عمالة الأطفال إلى ظروف العمل غير العادلة للكثير من المجموعات الفلاحية والخدمية والعمالية والحرفية، جميعا يفلتون من العقاب بانتهاكات مباشرة لحقوقنا وحرياتنا ولكرامتنا الإنسانية. إذا كان هذا هو «وضعنا» المجتمعى، إذا كنا نعيش فى مجتمع تسكن جنباته المظالم والانتهاكات؛ فلماذا تصدمنا حقائق غياب العدل وتراكم المظالم والانتهاكات التى تنتجها السلطوية التى تريد إجبار المواطن والمجتمع على الوهن والخنوع؟
هو خط مستقيم ذلك الذى يربط بين أزمات الفساد وإضاعة الوقت والطاقة والإهمال وتراكم المظالم والانتهاكات فى حياتنا اليومية وفى قطاعات المجتمع المختلفة، وبين شيوع وعمق ذات الأزمات فى الجهات الرسمية والجهاز الحكومى والمؤسسات التابعة له. هو أيضا خط واحد ذلك الذى يربط بين تمكين المواطن من القضاء على هذه الأزمات فى حياته اليومية، وبين تمكين المجتمع من تجاوز السلطوية وفرض التغيير نحو الشفافية والعدل والحق والحرية والعمل التنموى فى الجهاز الحكومى.