كان الطقس بديعًا، والسعادةُ تغمر الكَون؛ وشاهين كدأبه فى المناسبات السنوية الجليلة، مُنتشٍ مَسرور. اليوم وغدًا وبعد غدٍ إجازةٌ مَدفوعة الأجر، وليس فى جعبته ما هو أكثر مِن الخُطط والترتيبات لقضاءِ الوقت، ترى أيها يختار لهذا النهار؟
قاعةُ السينما تلوح أمامه بين تهويمات الاستيقاظ وخيالاته، عناوينُ الأفلام المتنافسة تتوالى، يعقبها منظر لمركب ينساب فى النيل، ثم حديقةٌ واسعة تضمُّه والأصدقاءَ، وكرةٌ نصف مَنفوخة، تتنقل بين الأيدى والأقدام، وتصل إلى رأسه بدقة؛ فيضربها عاليًا؛ ليحرز هدفًا مَشهودًا بين أفرع الأشجار.
أتته نغمةُ المَحمول الصاخبة، فانتزعته مِن دورة المياه انتزاعًا، زعق صوتُ صديقه يسألُ عن مَوعد لقائهما، فأجاب بلا تردد: «نشوف الفيلم، حفلة الظُهر«. لم يكن يدرك أى فيلم سيشاهدان، لكنه فيلمٌ وكفى، عادة ما تشبه الأفلامُ بعضها. يعرف وأصدقاؤه قصة الفيلم قبل أن تذيع أخبارها، ويتناوبون التعليق داخل القاعة؛ مُستنتجين كدأب المُشاهدين المُتمرسين الحدثَ التالى، مُستبِقين كلمات الحوار، فاضحين مُحاولاتِ التشويقِ الذليلة التى يقوم بها المُخرجون.
***
حين وصلا إلى الشباك، أدركا أن التذكرةَ أصابها الجنونُ، فتضاعف سعرها. لم تعد حفلاتُ النهار رخيصةٌ، لكن ثمّة أشياء أخرى رخصت. اضطجعا فى مقعديهما مُستعدين للتفاعل مع أبطال الفيلم، فيما راح الجار الجالس أمامَهما ينهى صفقةً هاتفيةً، وتعالى صراخ صبيٍّ يضربه شقيقُه، لم يلبث أن تخلَّص مِنه بدفعة قوية، وانطلق يعدو بين الصفوف؛ فصاحت الأم تشجعه على الفرار.
التفت شاهين جانبًا؛ فأبصر إلى أقصى اليسار بنتين تبدوان فى مرحلةِ الدراسة الثانوية، ترفع إحداهُما المَحمولَ تجاه الشاشة، وتثبته جيدًا، فيما تعطيها صاحبتها تعليماتٌ دقيقة كى تضبطَ الصورة. جَلَسَ فى الصفِّ الخلفيّ عجوزٌ رفع نظارتَه فوق رأسه، وراح يحدق فى الشاشة التى لم تعمل بعد، أما المقعد المجاور إلى اليمين؛ فقد استقر عليه رجلٌ فى أواسط العمر، وبيديه دفتر وقلم. مال شاهين على صديقه وغمز بخبث: «صحافيّ أكيد، ينوى الكتابة عن الفيلم، لكن ما الداعى للحضور ودفع ثمن التذكرة؟«
***
أظلمت القاعة، ومرت إعلانات العروض القادمة سريعًا، ليبدأ بعدها الفيلم. اندلع الضربُ والتحطيم، وتناثرت الأشلاءُ، ثم جاء دور البُكاء، وتوطَّدت قصةُ الحب بين أطرافها فى المساحة المُقررة، وردد شاهين وصاحبه الجُمل والعبارات على مدار الساعتين بحرفية عالية؛ وكأنهما مُلقنين على خشبة المسرح. لم تفلت منهما كلمةٌ ولا خانت لسانيهما التوقعاتُ، لكن المُتعة لم تكن كاملة؛ فلم يستثيرا بمسلكيهما واحدًا مِن الجمهور، ولا صرخ عليهما مُشاهد بأن يكُفا عن إحداث الضجيج، كانا جزءًا مِن فيلم آخر تجرى أحداثه بالقاعة، ويلعب فيه المتفرجون على اختلاف انتماءاتهم أدوارًا مُتساوية.
بعد انتهاء الفيلم؛ ظل الصحافيُّ جالسًا كأن العرضَ مستمر، وقد راح يهز رأسَه كما لو لم يقنعه ما رأى. سمع شاهين صوت البنتين تتفقان على تحميل المَقاطع التى سجلتاها على المحمول فورًا؛ ليعاد بثها على نطاق أوسع، أما الرجل الذى لم يكُف عن الحديث فى المحمول؛ فأغلقه أخيرًا، وجلس منتبهًا بينما الأنوار تُضاء، واستغرقت سيدةٌ ستينية وابنتها فى نوبة ضحك متواصلة، دون أن تتبادلا كلمة؛ لكن العجوز بالصف الخلفى انهمك فى الكلام، رغم أنه حضر الفيلم وحيدًا: «الله يرحم أيامنا ويجحم أيامكم، مالها السينما الحمرا؟ كانت باثنين جنيه أيام زمان وأقل؛ هوا وسما وفيلمين ورا بعض.. جاكم الغم.. لا فرجة ولا فسحة ولا حتى نومة«.
لفتت ثورته المَكتومة مَن جلسوا بالقرب مِنه، وخلال ثوان كان قد اندمج فى الإعراب عن حنقه، وعلا صوته؛ فامتنع الناس عن الخروج واستدارت الأعناق أغلبها نحوه، وسلَّطت البنتُ مَحمولها تجاهه، وحين انتهى مِن وصلة الرثاء وعزىّ نفسه، ضجت القاعةُ بالتصفيق. هرع أفراد الأمن فأحاطوا بالرجل، وطلبوا منه السكوت حتى لا يعكر صفو المواطنين المسالمين، الذين جاءوا للاستمتاع وقضاء وقت لطيف، لكنه لم يكُف؛ فاصطحبوه عنوة إلى الخارج. مال شاهين على صاحبه مُقهقهًا: «أفضل مِن الفيلم وأرخص بكثير«. نهار رخيص.