عن الجينات والميكروبات والأمراض المزمنة.. دنيا العلم الواسعة - عمرو حمزاوي - بوابة الشروق
السبت 21 ديسمبر 2024 8:30 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عن الجينات والميكروبات والأمراض المزمنة.. دنيا العلم الواسعة

نشر فى : الجمعة 14 سبتمبر 2018 - 9:05 م | آخر تحديث : الجمعة 14 سبتمبر 2018 - 9:05 م

المكان: كلية برلين للدراسات المتقدمة.

الزمان: الأسبوع الماضى.

السياق: سنويا، تدعو كلية برلين للدراسات المتقدمة مجموعة من العلماء والباحثين المنشغلين بقضايا مختلفة من الهندسة الوراثية والفيزياء والبيولوجيا إلى القانون الدستورى والسياسة المقارنة والآداب والموسيقى للإقامة فى برلين واستكمال أبحاثهم وكتاباتهم وسيمفونياتهم. تترك الكلية لضيوفها الحرية الكاملة لاستغلال إقامتهم على النحو الذى يفضلونه، الالتزام الوحيد هو حضور الغداء اليومى الجماعى والمشاركة فى إلقاء المحاضرات الأسبوعية. خلال الغداء وفى أعقاب المحاضرات، يتجاذب الضيوف ومعهم الأكاديميون العاملون فى الكلية أطراف الحديث ويناقشون الأسئلة والأفكار والمعلومات والمخاطر المطروحة على الإنسانية المعاصرة من نضوب مصادر الطاقة والانقلابات البيئية المتكررة واستعصاء مرض السرطان على العلاج إلى أولوية الدفاع عن استقلال القضاء وأسباب صعود اليمين المتطرف وتراجع الديمقراطية عالميا ودور الأدب فى دنيا الإنترنت والهواتف الخلوية.

الموضوع: حوار على الغداء يجمعنى بأستاذين جامعيين فى علم البيولوجيا وأستاذة فى فلسفة العلوم. وكان قد سبق الحوار محاضرة استمعنا إليها حول حدود التفسير الجينى (أى التفسير المعتمد على جينات الإنسان وخصائصها) للأمراض المزمنة كالسمنة وارتفاع ضغط الدم ونسب سكر الدم وغيرها. وفى سردى لجانب منه، سأمتنع عن ذكر أسماء من شاركتهم الحوار وأكتفى بالإشارة إلى البيولوجيين كبيولوجى ١ وبيولوجى ٢ وإلى أستاذة فلسفة العلوم كالأستاذة وإلى نفسى كالكاتب.

بيولوجى ١: البحث العلمى اليوم يتجاوز المسح الجينى لجسم الإنسان والبحث فى الخريطة الجينية عن تفسيرات للأمراض المزمنة وطرق للعلاج. ٣٠٪ فقط من مسببات أمراض كالسمنة وارتفاع ضغط الدم والتوحد والسرطان ذات صلة بجيناتنا، و٧٠٪ تأخذنا إلى طرق التغذية وأسلوب الحياة والعوامل البيئية والوظائف الاجتماعية المفروضة علينا إن داخل أسرنا أو فى أماكن العمل والفضاء العام. ويمتد ذات الأمر إلى الحيوانات التى نجرى عليها تجاربنا فى المعامل حول مسببات المرض وطرق العلاج، فقد اكتشف فريق بحثى فى جامعتى أن تطور الخلايا السرطانية فى الكلاب يرتبط بجانب الخريطة الجينية بخريطة الميكروبات والبكتيريا الحاضرة فى أجسادهم والمرتبطة بالتغذية والبيئة المحيطة بهم وعوامل أخرى كالعمر والنوع. والكارثة هى أن السرطان والتوحد والأمراض الأخرى التى نعلم جيدا ارتباطها بالبيئة والتى لا نملك لها علاجا حاسما تظل فى تزايد وانتشار مستمرين، وأن الوقت يضيق علينا لإحداث اختراقات علمية وطبية توقف الزيادة.

الأستاذة: لكن قاعدة البيانات المتاحة لدينا لا تدلل على أن هذه الأمراض فى زيادة مطلقة، تمكننا أدواتنا العلمية الراهنة من حصر معدلات انتشار السمنة والسرطان وغيرهما، لكن فقط منذ بدايات النصف الثانى من القرن العشرين فى أفضل الأحوال. وتظل سنوات الفترة الممتدة بين ١٩٤٥ و٢٠١٨ غير كافية أبدا للحكم القاطع على تطور الأمراض انتشارا أو انحسارا. بل إن مرضا كالسمنة يبدو حاليا، وفقا لبيانات منظمة الصحة العالمية فى ٢٠١٦، فى طور التراجع فى بعض البلدان كالهند وبها تقل نسبة المصابين بالسمنة عن ٣،٩ بالمائة مقابل ما يقرب من ٣٤ بالمائة فى الولايات المتحدة الأمريكية (ملاحظة الكاتب: تيقنت من دقة معلومة الأستاذة بشأن السمنة وتراجعها فى الهند بمراجعة قاعدة بيانات منظمة الصحة العالمية https://bit.ly/2r7hdMy ).

الكاتب: عن نفسى، أشعر دائما بعدم الارتياح ما أن تبدأ الجماعة البحثية فى ترديد مقولات مثل «الوقت يضيق علينا»، و«الإنسانية المعاصرة تحتاج سريعا لاختراقات علمية كبرى»، و«الكوارث البيئية والصحية تحيط بنا اليوم أكثر من أى لحظة ماضية»، وغيرها. فتلك المقولات لم ترتب غير تورطنا المتسرع فى تطبيقات تكنولوجية وطرق علاجية أحدثت من الأضرار ما يتجاوز جذريا الفوائد، ولنا فيما شهده القرن العشرون من الاستخدام غير الحذر لمفاعلات الطاقة النووية ومن الاستعمال غير المنضبط للمضادات الحيوية ومن بعض تطبيقات الهندسة الوراثية فى مجال الغذاء ومن توسع فى علاج الأمراض النفسية بالصدمات الكهربائية (خاصة قبل ثمانينيات القرن العشرين) دلائل واضحة. فى العلوم الاجتماعية لم يعد لدى أغلبية الباحثين ذلك الخوف الكاسح من أن الوقت يتأخر على بعض المجتمعات للحاق بركب التقدم، سواء عرفنا التقدم كعملية التصنيع أو التنمية المستدامة أو الديمقراطية أو ربطنا بينه وبين شيوع الطب الحديث والتكنولوجيا العصرية. فالحقيقة الوحيدة الثابتة هى أن حركة المجتمعات البشرية يتخللها الكثير من التدوير، فمن يتقدم اليوم قد يتأخر غدا، بينما يملك من تأخر إلى اليوم فرصا واعدة للتقدم غدا. انظروا إلى الحكومات الديمقراطية فى الغرب التى تهدد مؤسساتها وقوانينها وثقافتها الحركات الشعبوية واليمينية المتطرفة بعد أن ظننا أن الديمقراطية فى طور انتصار عالمى كاسح منذ تسعينيات القرن العشرين، وقارنوا بينها وبين الهند والصين وفيتنام التى تتقدم اقتصاديا بسرعات غير مسبوقة بعد قرون من الركود والفقر.

بيولوجى ٢: أتفهم وجهة النظر المشككة فى فرض سردية تطور خطى على حياتنا كبشر وعلى جوانبها المعقدة ومن بينها الأمراض ومسبباتها. وترد بالفعل العديد من علامات الاستفهام على الأبحاث العلمية التى تزعم تأسيسا على قاعدة بيانات محدودة نسبيا أن الأمراض المزمنة فى تزايد وانتشار مستمرين. أتفهم أيضا الخوف من وضع العلماء والباحثين تحت وطأة الاحتياج الفورى لاختراقات كبرى، فالمعامل التى تبحث عن نتائج فورية هى معامل تختزل العلاقات المعقدة بين أمور كالجينات والميكروبات والبكتيريا والبيئة المحيطة وتتسم بعض طرق العلاج الطبى التى تخرج منها بالقصور والجزئية. ولدى مثال بسيط من طب الأسنان؛ فقد أنتجت بعض المعامل الطبية مؤخرا علاجا لمرض تراجع اللثة يقوم على قتل كل ميكروبات وبكتيريا الفم؛ لأن بعضها يسبب تراجع اللثة، غير أن قتل كل الميكروبات والبكتيريا عرض متلقى العلاج «القاتل» لمخاطر أخرى أبرزها ظهور فطريات سريعة الانتشار فى اللثة وتهديدها لتماسك الأسنان. مثال آخر من علاج السرطان، فقد أثبتت فرق بحثية مختلفة أن سرعة انتشار الخلايا السرطانية تتزايد فى الجسد البشرى الذى لم يعد يملك «التوازن الطبيعى» من الميكروبات والبكتيريا وتقل بوضوح لدى من يمتنعون عن استخدام المضادات الحيوية والعلاجات القاتلة لكل وأى ميكروب وبكتيريا. عن نفسى، لست ممن يظنون أن واجب العلماء والباحثين هو تحقيق الاختراقات الكبرى. بل الأهم هو كشف أوجه الغموض التى مازالت تحيط بالكثير من جوانب حياتنا كبشر وتقصى كل الارتباطات الممكنة بين الجينات والميكروبات والعوامل البيئية قبل الإعلان عن طرق علاج جديدة أو عن فتوحات علمية طال انتظارها. كلما تراجع الغموض، كلما عرفنا أكثر عن جوانب حياتنا كبشر وأدركنا محدودية معارفنا، وكلما أعددنا دنيا العلم الواسعة لطرح أسئلة جديدة وتوظيف أدواتنا لطرق مساحات غير مأهولة.

عمرو حمزاوي أستاذ علوم سياسية، وباحث بجامعة ستانفورد. درس العلوم السياسية والدراسات التنموية في القاهرة، لاهاي، وبرلين، وحصل على درجة الدكتوراة في فلسفة العلوم السياسية من جامعة برلين في ألمانيا. بين عامي 2005 و2009 عمل كباحث أول لسياسات الشرق الأوسط في وقفية كارنيجي للسلام الدولي (واشنطن، الولايات المتحدة الأمريكية)، وشغل بين عامي 2009 و2010 منصب مدير الأبحاث في مركز الشرق الأوسط لوقفية كارنيجي ببيروت، لبنان. انضم إلى قسم السياسة العامة والإدارة في الجامعة الأميركية بالقاهرة في عام 2011 كأستاذ مساعد للسياسة العامة حيث ما زال يعمل إلى اليوم، كما أنه يعمل أيضا كأستاذ مساعد للعلوم السياسية في قسم العلوم السياسية، جامعة القاهرة. يكتب صحفيا وأكاديميا عن قضايا الديمقراطية في مصر والعالم العربي، ومن بينها ثنائيات الحرية-القمع ووضعية الحركات السياسية والمجتمع المدني وسياسات وتوجهات نظم الحكم.
التعليقات