هيا بنا نتواجد - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 11:01 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

هيا بنا نتواجد

نشر فى : الجمعة 14 أكتوبر 2016 - 10:10 م | آخر تحديث : الجمعة 14 أكتوبر 2016 - 10:10 م
مع مجلة الدوحة الصادرة فى الشهر الماضى، كتابٌ متوسط الحجم بعنوان «من والد إلى ولده». الكتاب هو مجموعة من الرسائل التى بعث بها أب لابنه الطالب، يحثه فيها على الجد والاجتهاد فى الدراسة، ويبين له ما ينفع لبناء مستقبله العلمى وما لا يجدى نفعا.

رغم أن فقرات الكتاب تمثل فى مجملِها مَجموعة مِن النصائح المُركزة التى قد تزعج القارئ وتؤرقه، لكنه ثرى المحتوى، تخفِف سلاسةُ أسلوب كاتبه وفصاحتُه مِن ثِقل النُصح المباشر. خصَص الوالد بعضَ الرسائل؛ الرسالتان الثامنة والتاسعة على وجه التحديد، لحديث مُستفيضٍ حول اللغة العربية، يلفت نظرَ الولدِ فيه إلى أهميتها وفضائلها، وضرورة اهتمامه بها حتى وإن لم يكُن عازما على التبحُرِ فى علومها والانقطاعِ لإجادتها.

قال فيما قال لولده: «إن لم تصْل فى لغتك العربية إلى درجة الكاتبِ المَجيدِ والشاعرِ المُفَلَق، فلا أقل، مُطلقا مِن أن تكون ــ كما قلت لك مُلما بأطراف اللغة وآدابها، تُحسِن الكتابة فيها، بل تُجيدها للتعبير عن أغراضك فى كل مَطلب، سواء كنت مِن رجال الحقوق، أم مِن رجال السياسة، أم مِن زعماء الأمة، فى كل طريق مِن طُرق الزعامة، ولكى تكون كذلك، يلزمك أن تعطى اللغة العربية الحظ الأول مِن دراستك، فتقبل على تعلِم النحو والصرف وعلوم البلاغة».

لم يقتصر اهتمام الوالدُ على سلامة القواعد اللغوية، بل تعداها إلى اهتمامٍ موازٍ بتاريخ اللغة العربية وتطورها وما أثر فيها مِن عوادٍ وأحداثٍ ولغاتٍ أخرى. لا أعرف إن لا يزال هناك مِن الآباء اليوم مَن يحثون أبناءهم على إجادة العربية، وعلى احترام قواعدها، بل وعلى طلب العلم بوجه عام مُقدَما على طلبِ الشهادة؛ ثانوية أو جامعية.

***

مضت سنوات ليست قليلة على تنبيه شديد اللهجة تلقيته مِن متخصص فى اللغة العربية؛ عالمٌ مِن علمائها، وفى الوقت ذاته واحد مِن ندرة تهتم لأمرها وأمرِ الناطقين بها. نبهنى الرجل فى سياق حوارنا إلى خطأ وقعت فيه وأنا أتكلم معه، خطأ رآه لا يُغتَفر، خاصة وإن صدر عن شخص مُولع بالكتابة.

لا أذكر اليوم سياق الحديث لكنى أذكر خطأى جيدا. تحدث عن غياب وتحدثت عن وجود وقلت فى زمرة ما قلت إن فلانَ «تواجد».

زمجر الرجلُ وتقلَصت ملامحه وهدَدَ على الفور: «لا شىء فى اللغة العربية اسمه «تواجد»، هذه مفردة دخيلة ومعناها لا يمُت بِصِلة لاستخداماتها الآن، اشرحى لى كيف تواجد فلانٌ، هل اشتاق والتاع وهزه الحزن مَثلا ؟.. هه؟

تفاجأت بالوقفة والرد، فالكلمة التى استخدمتها شديدة الشيوع حتى لتشكل جزءا مِن لغة الشارع الدارجة، أسمعها أينما ذهبت، تقول المذيعة: تواجد المحافظُ فى الحفل، وتواجد الرئيسُ فى الأمم المتحدة، وتكتب الصحفُ أن الناس تواجدوا فى الحدائق احتفالا بالعيد، أو أنهم تواجدوا منذ الصباح الباكر فى طابور الجمعية.

لا تقصد المذيعة قطعا أن المحافظَ أصابته لوعةُ الحُب ولا أن الرئيسَ كان فى حالِ الشوق والوَجد داخل أروقة الاجتماعات، ولا يقصدُ الصحفيون بالطبع أن الناس راحوا يبكون اشتياقا فى الطوابير، ولا أنهم اجتمعوا للتعبير عن الحزن فى العيد، وإن صار كل شىء ممكنا فى لحظتنا العابثة هذه.

***

لم أبحث عن الكلمة إلا حين أخطأت للمرة الثانية، ونِلت مُتحرجة لبلادتى التقريعَ الثانى، وكنت فى زيارة مَجمَعى لم يَحلُ لى الخطأ سوى أمامه. تأتى الكلمة فى لسان العرب ومختار الصحاح كالتالى: وجَد الرجلُ فى الحزْن وَجْدا؛ أى حَزِنَ، ومثلها وَجِدَ على اختلاف العلامات والتلفظ، وتَوَجَدْتُ لفلان أَى حَزِنْتُ له، وقيل: هم لا يَتَوَجَدُون سهر ليلهم ولا يَشْكون ما مَسَهم مِن مَشقته.

خلاصة الأمر أن التواجُد لا يرادف الوجودَ وأن المُتواجِد ليس هو الموجود. الأول مُشتَق مِن الوَجد أى الشوق، والثانى مِن الوجود أى الحضور؛ مع بعض التصرُف فى المعنى. وعيت الدرس ولم أرتكب الخطأَ مرة ثالثة حتى اليوم، والتزمت توضيحه ما جاءتنى الفرصة، لمَن يقبلُ التوضيحَ أو يهتمُ للمسألة برمتها.

***
حين أنهيت رسائل أحمد حافظ عوض بك لولده، وعنوانها الفرعى «رسائل فى التربية والتعليم والآداب»، تمنيت لو صارت بين قراءات طلاب المدارس والجامعات على حدٍ سواء، لا إثقالا ولا اختبارا بل قراءة حرة ومَدخلا لنقاشٍ مَفتوح حول قِيم عديدة، أُهيلَ عليها التراب وصارت خافية على الجميع، وعلى رأسها ما يجب بذله للاعتناء بلغةٍ ننطقها، ونفكر عبرها، ونُهينها أيضا كلما استطعنا إلى الإهانة سبيلا.
بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات