قاربت الساعة على الرابعة عصر الاثنين، كنت أجلس فى مقهى بالقرب من ميدان «ألف مسكن» اتحاور مع الدكتور إبراهيم عرفات، أستاذ العلوم السياسية المرموق، الذى جاء إلى القاهرة فى إجازة قصيرة من عمله فى الخارج. حملنا الحديث إلى دروب شتى من السياسة إلى البحث الاجتماعى، من المشهد العام إلى الشأن الإنسانى الخاص، مناقشة متدفقة قطعتها مسيرة تصدرها علم تنظيم القاعدة ذو اللون الأسود، يليه علم «رابعة» ذو اللون الأصفر، ثم فى منتصف المسيرة علم مصر بألوانه الأحمر والأبيض والأسود يتوسطه «لا إله إلا الله» بدلا من النسر. أطفال فى المقدمة لم يرحم طفولتهم من زجوا بهم، يليهم أحداث يحملون إطارات سيارات معدة للاشتعال، ويحيط بالمسيرة شباب ملثم يهرول فى ملابس بالية، وتلحق بهم نساء وفتيات يطل من مظهرهن الفقر والبؤس الاجتماعى، وفى النهاية مجموعة من الملتحين يحمل بعضهم عصيـَّا غليظة. لم يتعد إجمالى المشاركين فى المسيرة مائتى شخص، وربما أقل، يرفعون إشارة «رابعة»، ويهتفون بعبارات ضد الجيش والاستفتاء. لم نبال كلانا بما نشاهد، ولاسيما أن المشهد كان مُحبطا لما بدا عليه من اللاسياسة وسط تجاهل المارة الذين لجأ بعضهم إلى إطلاق عبارات الاستخفاف بالمتظاهرين، والسخط عليهم.
فى غضون دقائق معدودات وصلت المسيرة إلى ميدان «ألف مسكن» القريب، وبدأ الصبية فى مقدمة المسيرة بإطلاق الألعاب النارية، والحجارة على قوات الأمن القادمة التى ردت بإطلاق القنابل المسيلة للدموع. تدفق الدخان القاسى إلى المقهى الذى كنا نجلس فيه رغم بعده عن مسرح الأحداث، عشنا ظواهر معتادة فى مثل هذه المواجهات: الأعين الدامعة، النهجان، السيدات اللاتى يجرين فى ذعر، والشباب يفر من أمام مركبات الشرطة، والسيارات تركت حاراتها المرورية لتواجه السيارات القادمة من الاتجاه العكسى. مشهد فوضوى بامتياز. ذعر، خوف، غضب.
ماذا يريد الإخوان المسلمون؟ الشارع انفض من حولهم، الناس لم تعد تعبأ بهم، أو تستجيب لهم. تجمعاتهم العشوائية بائسة شكلا وموضوعا، تربك الحياة، ولا تُحدث أى تأثير أو تحول، لا تبعث رسالة، ولا تكسب متعاطفين. هذه ليست مظاهرات، ولكنها تجمعات لإثارة الشغب، وتعطيل الحياة، وإرباك المرور. إذا كان هؤلاء المتظاهرون هم أنصار «محمد مرسى» وإخوانه، فهم بالتأكيد لا يملكون مشروعا سياسيا، ولا يحملون رؤية للتقدم. لا أريد إطلاق توصيفات اجتماعية قاسية على هؤلاء المتظاهرين أو ممارسة استعلاء معرفى فى النظر إليهم. هم يشكلون ـ ببساطة ـ جزءا من أحزمة البؤس التى تحيط بالمدينة، وتسكن فى عشوائياتها، وطرقها الضيقة، وبيئتها الخانقة. مواطنون نزعت عنهم «الشرعية الإنسانية» بفعل الفقر والتهميش الاجتماعى، وتدهور معدلات التنمية الاجتماعية والانسانية، وتلقفتهم قوى تبحث عن «شرعية ذائفة». هؤلاء ليسوا جزءا من طبقة سياسية فاعلة، وليسوا كذلك شريحة من طبقة وسطى واعية. قد تشكل قنابل الغاز حاجزا آنيا لوقف زحفهم العشوائى، لكن يظل الحكم مطالبا بإخراجهم من البؤس الاجتماعى، والعوز الإنسانى، والاضطراب الفكرى ليصبحوا ضمن القوة المضافة للاقتصاد والسياسة والمجتمع، لا أن يظلوا «مقذوفات إنسانية» ـ أطفال ونساء وأحداث ــ تحت الطلب. هم ضحايا غياب التنمية، قبل أن يكونوا ضحايا الإخوان المسلمين.