المَطبَخ - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 11:55 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

المَطبَخ

نشر فى : الجمعة 15 يناير 2021 - 7:25 م | آخر تحديث : الجمعة 15 يناير 2021 - 7:25 م

مِن بين الغُرف المُتعددة في البيت؛ يستريح بعضُ الناس إلى الجلوسِ في المَطبَخ. يهتمّون بتصميمِه وترتيبِه وجعله مكانًا مُبهجًا وحميمًا؛ ضاقت مساحته أو اتسعت. الروائح الطيبة التي تتصاعد مِن المَوْقد تضيف إليه الألفةَ، وتسبغ عليه الدفءَ، وتغمُر أركانَه بطابعٍ أصيلٍ وعتيق؛ طعام الجدَّات المُعدُّ على مهلٍ، والساعات الطوال المنذورة لطهو ما داعب الأنوفَ على امتداد العمر، وأسال اللعابَ، وأغوى الكبارَ قبل الصغار.
***
اعتاد كثيرون وأنا منهم تناول طعامَهم في المَطبَخ؛ هناك مَن يتأنى ولا يغادر فور الانتهاء، إنما يُعد كوبَ الشاي مُستعدًا لمرحلةٍ تاليةٍ مِن الاستمتاع، وهناك مَن يأكل في عجلةٍ من أمره، خاصة إذا كان المُراد وجبةً فرعيةً سريعة؛ إفطارًا تمهيديًا يسبق الإفطارَ الفعليّ خارج المنزل، أو تصبيرةً عابرة قبل تحضير الغذاء، أو عشاءً متأخرًا ما بعد العشاء. لا يستريح هؤلاء لاستخدام غرفةِ الطعام الرسميَّة إن وُجِدَت، ولا يحبون الجلوسَ إلى المنضدة؛ مشدودين إلى مقاعدهم، مَجبورين على اتخاذ وضعٍ لا يبعث في العادة على التحرر والاسترخاء.
***
المَطبَخ في عقيدةِ أصدقاءٍ أعرفهم حقَّ المعرفة؛ ملاذ. يحتضن ما رقَّ له القلبُ مِن ذكريات، ويحمل عبقَ المَوروث من وَصفات، كما يتجدد تلقائيًا بطبيعة وظيفته؛ استهلاكٌ يوميّ، ووارد لا ينقطع؛ وإن تراوح بين وفرةٍ ونُدرة. هو أيضًا يتحدث بغير صوتٍ عن الأوضاع الاقتصادية ويشي بتذبذبات الحال. إذا قيل عن بيتٍ إنه عامرٌ؛ فالقصد في العادةِ أنَّ به مِن الطعام ما يفي بحاجة ساكنيه ويفيض. يَصِل فيضُه إلى الجيران ما كانوا على درجةٍ مِن القُرب والوِد، وإلى الضيوفِ ما حلُّوا؛ ولو بغيرِ مَوعدٍ أو اتفاق.
***
بعضُ المطابخ لا يتمتع بالشاعريةِ والانسجام، بل بسُمعةٍ سيئة لم تكُن في الحسبان. سلاسلٌ لمطاعمَ كُبرى يزورها في أنحاءِ العالم ملايين الرواد؛ مع هذا تلحق بها أوصافٌ مُخيفةٌ مُقززة، وأخرى محلية تنتشر أفرعها بين الحدود؛ إنما يُعثَر في مَطابخِها على لحومِ دواب؛ لم يتعارف الناسُ على تناولها.
***
بالقرب مِن المنزلِ القديم؛ اشتهرت عربةٌ صغيرةٌ تبيع سندوتشات السجق والكبدة برخص أسعارها، وبالمذاقِ الحريف المُمتع، والرائحةِ التي تجوب الشوارعَ القريبة. اشتهرت أيضًا بأن مُحيطَها خالٍ- على غير المألوف- مِن القططِ والكلاب. لم نكُن نفهم المعنى الذي يقصده الكبار بملحوظتهم هذه؛ ونحن بعد في مراحل الدراسةِ الأولى، ثم أدركنا القصد لاحقًا، وأصابنا هلع؛ إذ تكوَّنت بيننا وبين كلابِ الشوارع وقططها على مَرّ السنوات صداقات.
***
مع الإصابةِ بنزلةٍ مَعوية حادة هي الثانية خلال شهر واحد، انتبهت العائلةُ الصغيرةُ التي تنتمي إلى دائرةِ الأقرباءِ للعاملِ المُشتَرك؛ وجبة دجاج مِن مَطعم ذي اسم ذائع الصَّيت، ندر أن يجهله طفلٌ، تنقلب على أثرِها المعدةُ وتتلوى الأمعاءُ، وترتفع درجةُ الحرارةِ ويرتعد الجَسد ويتصبَّب عرقًا، ثم تزول الأعراضُ بعد أن يتخلصَ الآكلُ مما استثار جهازَه الهضميّ ونغَّصه. بدا الأمر واضحًا؛ الرابطة مَعقودة، التزامُن لا شكَّ فيه، والتحذيرات المُتكررة التي استُبقِيَت في إطار الشائعات- ترفعًا عن اتخاذ موقف بلا دليل- قد اتخذت موقعَها كحقيقةٍ شِبه مؤكدة. ربما المَطبَخ غير نظيف، أو هي مُحتويات الوجبة قد تجاوزت فترةَ الصلاحية المقبولة.
***
لا تسلم مطابخُ الفنادق ذات النجماتِ الخمس هي الأخرى مِن شائعاتٍ وأقاويل؛ لا يُعرف مدى صدقها من كذبها؛ فالمعرفةُ تظلُّ ناقصةً ما دام المكانُ محجوبًا عن الأعين، مستورًا خلف الجدران.
***
في رحلةٍ لمدينة السادس من أكتوبر؛ زرت ضِمن لقاءات متعددة مطعمًا جديدًا، مساحته متوسطة، فيما تطلُّعات صاحبِه كبيرة مُتوثبة. لفت انتباهي أن المطبخَ مَفتوح؛ الجدار الذي يواجه الزائرين مَصنوع بأكملِه من الزجاج، وكبير الطُهاة يظهر أمام الزبائن وهو يقوم بصف أدواتِه وتجهيز الطعام. سألت فعرفت أن ما يستخدم الرجلُ جميعه طازج، لا يلجأ للمُجمَّدات ولا يستعمل ما سبق إعداده بأيدي آخرين. ينتقي المكوناتِ بنفسه، يصنع الخلطاتِ الخاصة بيديه، يُضيف أصنافَ البُهارات التقليدية وتلك التي تعرف عليها في المطابخ الآسيوية، يدقق المقادير، ويتعامل مع الخُضروات بوسائلِ تجفيفٍ مَدروسة كما ينتقي اللائقَ مِن مَخبوزاته، وينظر لما صنع بشغفٍ ظاهر. يتروى لإنضاجِ ما يحتاج وقتًا، ويتحدَّى المُنافسين بقُدرته على الجَمعِ بين المذاقِ الخاص الذي يشتهيه المولعون بالوجباتِ السريعة، وبين القيمة الغذائية وطُرق الإعداد الصحية.
***
يحكي صاحبُ المطعم عن مَطبخِه بسعادةٍ حقيقية، لا يتعجل نجاحًا ولا يقامر بسمعته. يقول بثقة إن مطبخَه قادرٌ على جذبِ الذواقة، الحريصين على معرفةِ التفاصيلِ الدقيقة والاطمئنان لجودة ما يدخل أحشاءَهم.
***
يقول المأثور الشعبيّ: "الصيت ولا الغنى" والمعنى أن الصورةَ التي تستقر في الأذهان عن أمرٍ من الأمور أو شخصٍ من الأشخاص، هي التي تبقى وتكفُل الاستمرار. في حاضرنا توارى المأثور؛ لم يسمع به كثيرون وهناك مَن سمعوا ولم يعبأوا؛ فالغِنى مُغرٍ والصيتُ في حاضرٍ سَمته صَخبٌ أجوف وضجيج؛ لا يجد مُريدين مُخلِصين.
***
في السياسةِ كما في الأكل؛ مَطابخ وطهاة، ومُكونات بعضُها مُختار بعنايةٍ والآخر كيفما اتفق، قد تحترق الطبخة لتسرُّع صانعِها أو تخرج دون نُضج للجماهير.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات