المغزى السياسي لسيطرة الشعب على مقرات أمن الدولة - علاء عبدالعزيز - بوابة الشروق
الأربعاء 25 سبتمبر 2024 1:18 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

المغزى السياسي لسيطرة الشعب على مقرات أمن الدولة

نشر فى : الثلاثاء 15 مارس 2011 - 11:53 ص | آخر تحديث : الثلاثاء 15 مارس 2011 - 11:53 ص

 "أنا باستغرب من الناس اللي مش فاهمة حقيقة السياسة في مصر..مافيش حاجة اسمها ديمقراطية عندنا..لا كان فيه ولا هيكون..وكمان مافيش أحزاب سياسية..ولا حتى الحزب الوطني يصح نعتبره حزب ما دام بيقع في عرضنا كل انتخابات علشان يسيطر على الشعب والشورى والمحليات.. لازم تفهموا إن السياسة في مصر خلاصتها كلمتين: "سيطرة" من فوق و "طاااعة" من تحت..والجهاز الوحيد القادر على ضمان السيطرة وتأمين الطاعة هو إحنا".

هكذا لخص وزير الداخلية الأسبق حبيب العادلي، في جلسة مغلقة حضرها نفر محدود من كبار المسئولين، دور ووظيفة جهاز مباحث أمن الدولة في النظام السياسي المصري. ورغم مرور ثلاث سنوات على هذه الجلسة، إلا أن المرء لا يسعه إلا استحضارها في سياق الجدل الذي أثارته ثورة الخامس والعشرين من يناير حول مستقبل هذا الجهاز (حله، إعادة هيكلته، نقل الإشراف عليه إلى إحدى الهيئات القضائية،..الخ).

وأبرز معالم هذا الجدل يكمن في التساؤلات المشروعة التي يطرحها مواطنون شرفاء بعضهم من البواسل الذين صنعوا الثورة: هل تستقيم المطالبة بحل أهم جهاز أمني في البلد في وقت نعاني فيه جميعا من الفلتان الأمني؟ وحتى لو كان للجهاز تجاوزات بعضها جسيم، فهل هذا هو التوقيت المناسب لتفكيكه؟ ثم ألا يمارس هذا الجهاز أدوارا وطنية هامة كمكافحة التجسس مما يحتم الحفاظ عليه؟ وأخيرا ألا تنطوي الدعوة لحل الجهاز على جهل فاضح بحقيقة وجود أجهزة أمنية مماثلة في أعرق الدول الديمقراطية (المباحث الفيدرالية في الولايات المتحدة مثلا)؟

عندما تتأمل مليا في هذا النهر من الأسئلة الاستنكارية تكتشف أن منبعه غياب المعلومات ومصبه ضعف الإدراك. في قضية المعلومات، لا يعرف الناس مثلا أن جهاز مباحث أمن الدولة ليست له أدنى علاقة من قريب أو بعيد بملف مكافحة التجسس داخل مصر، وأن الجهة التي تتولى تلك المهمة بالكامل هي هيئة الأمن القومي التابعة لجهاز المخابرات العامة. وفي مسألة المعلومات أيضا يبدو أن كثرة من الناس لا تعلم أنه لا يوجد جهاز أمني واحد في أي بلد ديمقراطي في العالم تناط به مهمة إخصاء الحياة السياسية قمعا وقهرا بوصفها معركته المقدسة التي لا يعلو فوق صوتها صوت.

وما دمنا في باب المعلومات أيضا فإن حقائق التاريخ لا ينبغي تجاوزها، فالحاصل أن بذرة أمن الدولة غرستها في مصر أيادي الاحتلال البريطاني قبيل نشوب الحرب العالمية الأولى عندما شعر المحتل أن تركيز الجهد في ساحات القتال يستوجب تأمين الجبهة الداخلية من خلال استحداث "القسم المخصوص" لجمع المعلومات عن خلايا المقاومة الشعبية والإجهاز عليها. وسرعان ما استطيب القصر تلك الفكرة فانتقلت تبعية "المخصوص" للبلاط مع بقاء المهمة على حالها. على أن المثير حقا أن ثورة يوليو على الرغم مما أحدثته من تغيير عميق في بنية المجتمع، لم تجد داعيا واحدا لحل هذا "المخصوص" أو تغيير فلسفة ومنهاج عمله. كل ما هنالك أن طبيعة المستهدفين بجمع المعلومات عنهم والإجهاز عليهم تغيرت أربع مرات على مدار القرن الفائت (1913-2011) من "خلايا المقاومة" إلى "أعداء السرايا" إلى "أعداء الثورة" وصولا إلى "أعداء الدولة". ومعها تغير اسم "المخصوص" عدة مرات لمواكبة متطلبات المرحلة.

لكن ماذا لو كان "أعداء الدولة" الذين يتعقبهم الجهاز الآن هم فعلا ممن يستهدفون أمن الوطن والمواطن (كالخلايا المسماة بالإرهابية مثلا) ألا يضفي ذلك عليه طابعا وطنيا ويجعل من وجوده ضرورة؟ مزية هذا السؤال أنه ينقلنا من مستوى غياب المعلومات إلى خانة التباس الإدراك، فصحيح أن العامل في مصنعه والطالب في جامعته والمهني في نقابته والناخب في دائرته يدركون أن "أمن الدولة" يحول بينهم وبين اختيار ممثليهم في النقابات والاتحادات والمجالس المحلية والتشريعية، إلا أن الصورة الكلية ليد ثقيلة تطحن الحياة السياسية في البلد بين رحى السيطرة والطاعة، بقيت غائبة أو في أحسن الفروض غائمة.

ومما زاد من الغيوم التي رانت على تلك الصورة الكلية أن الناس لم تكن تدرك أو تتصور تلك العلاقة العضوية الآثمة بين "أمن الدولة" وفساد الدولة على النحو الذي فضحته ميزانيات بعض الشركات والهيئات العامة التي دأبت على دفع إتاوات شهرية لمسئولي الجهاز "المخصوص"، ناهيك عما ستوثقه المستندات التي عثر الثوار عليها في مقرات الجهاز عن علاقة الاعتماد المتبادل بين الجهاز ورجال الأعمال المتنفذين.

الفئة التي عمل الجهاز دون كلل على جمع المعلومات عنها والإجهاز عليها لم تكن إذن من الفاسدين (أباطرة الاحتكارات، وسماسرة أراضي الدولة، وغيرهم) ولا كانت بالأساس ممن حملوا السلاح لترويع المواطنين، بل ظل الجهاز طوال حكم مبارك على وعده وعهده منذ نشأته، يستهدف كل ناشط سياسي (باستثناء الموالين للنظام) بالاعتقال والتعذيب والحرمان من الوظائف العامة، بل والحرمان حتى من ممارسة النشاط الإنتاجي والخدمي الخاص، ويستهدف أيضا مؤسسات العمل العام (الأحزاب والنقابات والاتحادات والمجالس) فيفجر بعضها من الداخل، ويفرض الحراسة على البعض الآخر، ويفرغ البعض الثالث من مضمونه.

ينبغي أن ينحني المرء احتراما لذلك العبقري الذي أطلق اسم "المخصوص" على هذا الجهاز في بدايات القرن العشرين، فقد استشرف الرجل ببصيرة نافذة أن هذا الكيان سيبقى على مدار قرن كامل "مخصوصا" لخدمة الطغمة الحاكمة أيا كانت، و"مخصوصا" لهدر وامتهان قيمة الإنسان المصري بأبشع صنوف التعذيب، و"مخصوصا" لوأد كل بادرة أمل في تحول ديمقراطي. على أن الإنصاف يقتضي الاعتراف بأن الأعظم وعيا من هذا العبقري هم هؤلاء الثوار الذين أدركوا أن ثورتهم لا يمكن أن تكتمل دون القضاء المبرم على هذا "المخصوص" وضمان ألا تقوم له قائمة مستقبلا بأي اسم جديد.

التعليقات