البلوتوقراطية.. وسياسات التكويش - علاء عبدالعزيز - بوابة الشروق
الأربعاء 25 سبتمبر 2024 9:33 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

البلوتوقراطية.. وسياسات التكويش

نشر فى : الإثنين 9 أبريل 2012 - 8:00 ص | آخر تحديث : الإثنين 9 أبريل 2012 - 8:00 ص

(1)

 

يحكى لنا الصحفى والروائى الأمريكى جورج بيكر قصة تسترعى الانتباه: فى عام 2010 انفقت إحدى شركات وول ستريت الأمريكية 300 مليون دولار لمد شبكة ألياف ضوئية من شيكاغو إلى نيويورك بهدف تسريع خدمة التجارة الالكترونية عبر الانترنت. قد يبدو هذا استثمارا محمودا للوهلة الأولى، لكن حين يعلم المرء أن خط السكة الحديد الواصل بين نفس البقعتين (شيكاغو ونيويورك) لم تزد سرعة القطارات التى تقطعه ميلا واحدا فى الساعة منذ عام 1950 (أى منذ ما يزيد على ستة عقود) بسبب انعدام الاستثمارات الخاصة والحكومية الرامية لتطويره، فلابد أن يتساءل: «لمصلحة من» يتم تخصيص الموارد فى الولايات المتحدة؟

 

(2)

 

مكتب الميزانية التابع للكونجرس الأمريكى لديه من الأرقام ما يدفع جورج بيكر إلى مزيد من الدهشة، إذ تشير احصاءات المكتب إلى أنه فى منتصف السبعينيات كان مديرو الشركات الكبرى يتقاضون 40 مثل أقل العمال دخلا فى شركاتهم، بعدها بثلاثة عقود (بالتحديد فى عام 2007) وصل المعدل إلى 400 مثل. تذكر الاحصاءات أيضا أن الواحد بالمائة الأغنى فى المجتمع الأمريكى زادت دخولهم فى الفترة من 1979-2007 بنسبة 275% ليصل نصيبهم من الدخل القومى إلى 34.6%، وبشكل أكثر اجمالا يشير مكتب الميزانية إلى أن خمس سكان البلاد الأكثر ثراء يستأثرون بـ84% من ثروة البلاد، تاركين للأربعة أخماس الآخرين الفتات المتبقى.

 

(3)

 

قيل لجورج بيكر: هون عليك فأنت فى بلد ديمقراطى تحكمه مؤسسات تشريعية وتنفيذية تنتخب دوريا بإرادة شعبية حرة، وبالتالى فإذا كان ثمة نزوح للثروة قد حدث على مدار العقود الثلاثة الماضية من جيوب الفقراء إلى خزائن الأغنياء، فإن ذلك لم يحدث الا بمباركة الأغلبية لأنها رأت فى ذلك تحقيقا لمصلحة المجتمع ككل. لوهلة كاد جورج يصدق تلك الحجة الواهية، لولا أن قرأ الدراسة المسحية التى أجراها مايكل نورتون بجامعة هارفارد العام الماضى والتى أشارت إلى أن أغلبية ساحقة تصل إلى 92% من الأمريكيين تفضل نمط توزيع الثروة الأكثر عدلا فى السويد على النمط الأمريكى الذى يفوق فى اجحافه جميع الدول الصناعية فى العالم ويقترب من مستويات التفاوت الهائلة فى غانا ونيكاراجوا وتركمنستان، وأنهم يرون ان لا سبيل إلى تحقيق العدالة فى المجتمع الامريكى إلا بالاقتطاع من ثروة الأغنياء لصالح الفقراء.

 

(4)

 

لم تتبدد دهشة جورج بيكر إلا عندما قرأ كتاب «سياسات التكويش» winner-take-all politics  الذى وضعه قبل عامين اثنان من كبار علماء السياسة فى الولايات المتحدة (جاكوب هاكر وبول بيرسون) والذى يثبت بجلاء أن عمليات نزح ثروة المجتمع ومراكمتها فى حسابات الأثرياء على مدى أكثر من ثلاثة عقود كانت تعبيرا عن خيارات سياسية حاسمة رسمتها نخبة رجال الأعمال التى أنشأت كما هائلا من جماعات وآليات الضغط لتحويل تلك الخيارات إلى تشريعات وسياسات نافذة. يتتبع الكتاب الكيفية التى استغل بها رجال الأعمال مناخ الأزمة الاقتصادية فى السبعينيات لتصوير الأزمة وكأنها نتاج للضرائب التصاعدية وبرامج الرعاية الاجتماعية، وبالتالى تمرير اعفاءات وتخفيضات متتالية فى الضرائب على الثروات والارباح الرأسمالية والدخول المرتفعة، وصولا إلى الوضع المأساوى الراهن الذى يخضع فيه المرشح الرئاسى ميت رومنى الذى تبلغ ثروته ربع مليار دولار لشريحة ضريبية لا تتجاوز 14% فى الوقت الذى يدفع فيه أبناء الطبقة الوسطى نحو ضعف تلك النسبة.

 

(5)

 

توقف جورج طويلا أمام أطروحة الكتاب الرئيسية التى تذهب إلى أن عملية الافقار المنظم لـ80% من المجتمع الأمريكى تحديدا منذ عام 1978 وحتى اليوم، لم تكن فقط نتاجا «طبيعيا» لآليات السوق، بل «سياسة» متعمدة للوبى رجال الأعمال وحلفائهم فى الكونجرس والبيت الأبيض. وبالتالى فإن ما بدأ كتكويش اقتصادى سرعان ما اصطحبه تكويش سياسى. فقد تبنى المشرعون المحافظون خطا ثابتا ومتشددا نجح فى الحيلولة دون صدور تشريع واحد منذ نهاية السبعينيات وحتى الآن يعزز دور العمال والأجراء فى رسم السياسة الاقتصادية لبلدهم ويوازن طغيان المصالح الرأسمالية. والنتيجة أن تحولت ساحة الفعل السياسى من «لعبة ديمقراطية» يديرها صاحب الأغلبية المنتخبة إلى «حلبة صراع» تتناطح فيها أفيال المصالح الرأسمالية وهى تطحن تحت أقدامها مطالب التنمية الانسانية لأربعة أخماس الشعب الأمريكى.

 

(6)

 

فى لحظة ما، قرر جورج بيكر أن الانصاف يقتضى منه العودة إلى تاريخ الرأسمالية منذ نشأتها فى القرن السادس عشر مفتشا عن بعض الجوانب المضيئة فى مسيرتها، لكنه خرج بعد عناء البحث بمحصلة مفادها أن التراكم الرأسمالى فى مراحل النشأة اعتمد على ثلاثة مصادر تنكرها الفطرة الاخلاقية السليمة (الاقراض المالى بفوائد باهظة، الاعتماد على ريع الاقطاعيات الزراعية التى استغلت عبيد الأرض أسوأ استغلال، نهب موارد المستعمرات فى آسيا وافريقيا).

 

(7)

 

أخيرا، وجد جورج بيكر ضالته فى مصطلح «البلوتوقراطية» الذى يشير إلى ظاهرة تبدأ بممارسة أصحاب المال قدرا من النفوذ المتزايد على صناعة القرار السياسى، ثم ينتقلون لممارسة السياسة مباشرة عبر عضوية البرلمانات وتولى المناصب التنفيذية العليا مما يتيح لهم ليس فقط «التأثير» على صناعة القرارات بل اقتراحها و«تفصيلها» على مقاس مصالحهم فى مراكمة الأرباح، وصولا إلى مرحلة يصعب فيها على المواطن مهما بلغت فطنته أن يدرك أين تنتهى حدود الاقتصاد المتوحش وأين تبدأ السياسة التمثيلية، وأين هى مصلحته فى هذا التماهى؟ عند هذه النقطة يهجر المواطن السياسة، وينأى بنفسه عن التحزب والتصويت والعمل العام  (لم تتجاوز نسبة المصوتين فى الانتخابات الرئاسية الأمريكية حاجز 56.8% منذ عام 1960 حتى اليوم، كما لم تتعد نسبة المصوتين فى انتخابات الكونجرس 39.8% منذ عام 1970).

 

(8)

 

«الرأسمالى بيملك الآلة ــ أغلال على استغلال على بطالة ــ يجعل حياتك يا فقير عالة ــ ويموتك ويبيع لك الأكفان»، الشاعر المصرى الكبير فؤاد حداد.

التعليقات