ظلت «يارا» ترقص إلى جوارى، بينما يغنى هشام عباس أغنيته «ليلة يا ليلة» المأخوذ لحنها من الفلكور الصعيدى وحين هممت بتصويرها نادت على رفيقاتها «جنى»، و«هنا» و«حبيبة» ليظهرن معها فى مقطع الفيديو الذى أردت له أن يوثق إحدى أجمل المبادرات الثقافية التى تابعتها فى حياتى.
المبادرة التى أقصدها هى حفلات «العدالة الثقافية» التى بدأتها وزارة الثقافة أخيرا بالتعاون مع وزارة الآثار والسياحة وانطلقت الأسبوع قبل الماضى من معبد دندرة بقنا وتواصلت هذا الأسبوع فى قرية «العرابة المدفونة» عند معبد سيتى الأول الشهير بمعبد أبيدوس فى سوهاج.
جئت إلى «العرابة» بمصادفة دبرها صديقى الصحفى صلاح الناجى حين دعانى مع الزميلة سمر نور و«اليوتيوبر» عمرو المعداوى لمشاهدة المعبد وزيارة القرية الساحرة، لكن الرحلة امتلأت بتفاصيل انسانية أخرى وحققت أكثر من هدف، فهى أولا كشفت عن قرية يجهلها أغلب المصريين على الرغم من كنوزها النادرة وأولها معبد عظيم محاط بأساطير كثيرة بعضها لا يزال فاعلا فى الحياة اليومية لسكانها المعاصرين.
وكغالبية القرى تشكو العرابة من نقص فادح فى الخدمات وغياب تام لفرص العمل بعد أن تعطلت فيها سبل السياحة وهجرتها بعثات الحفر والتنقيب سواء بسبب كورونا أو بسبب الحرب الأخيرة، وعلى مدى 4 أيام لم أجد محلا واحدا من «البازارات» يفتح أبوابه لاستقبال غرباء وهى مهمة تكفل بها المقهى.
ساعدتنى الرحلة كذلك على اللقاء مع شباب متعلم يعتز بتراثه العائلى الخاص ويدرك ثراء تراثه العام فى قرية لها تفردها البالغ، ويكفى أن اضرب مثالا واحدا بعمر نايل شحاتة وهو شاب يدرس الهندسة فى جامعة سوهاج ويتمتع بفصاحة نادرة وعزة نفس بادية، ويحفظ أرشيفات عائلته التى تعد واحدة من أكبر عائلات القرية لحد أنها استضافت الملك فاروق فى «مندرة العائلة» عندما زار المعبد بصحبة رئيس ديوانه الملكى أحمد حسنين باشا عام 1937.
لكن «يارا» تبقى هى الاكتشاف الأهم خلال الرحلة على الرغم من أن عمرها لم يزد على 6 سنوات إلا أنها كانت تجبر عائلتها كل ليلة على الحضور ومعها رفيقاتها الجميلات اللواتى كن يرقصن معها على موسيقى جميع الأغنيات التى أداها هشام عباس وعلى الحجار ومدحت صالح شأن الآلاف الذين أتيح لهم الحضور فيما لم تتمكن مئات الأسر من الدخول بسبب طبيعة الاجراءات التى حالت دون ذلك.
وفى مواجهة هذا التعنت لم يكن هناك من حل سوى استغلال أسطح البيوت المجاورة وشبابيكها التى كانت منصات لإطلاق الزغاريد والهتاف.
تمثل «يارا» ورفيقاتها عناوين واضحة للبهجة، ورسالة ليس أجمل منها فى الطريق الذى ترسمه مصر نحو المستقبل، حيث ينبغى للفن أن يجد مكانا فى البيئات التى عاشت عمرها حاضنة لمواهب كبيرة، لولا أنها عانت فى السنوات الأخيرة من شتى أنواع التعصب والانغلاق وتحولت إلى بؤر للتطرف وقنابل موقوتة للعنف والإرهاب.
وفى ظنى أن تجربة الخروج بالفن إلى الأقاليم المحرومة من الخدمة الثقافية أولى خطوات العلاج وبالتالى فهى اهم تجربة عايشتها لوزارة الثقافة منذ توقف مكتبة الأسرة والتى آن الأوان للتفكير فى استئنافها من جديد بقواعد جديدة.
وبفضل مثل هذه النشاطات الجماهيرية المهمة ستنجح وزارة الثقافة فى استعادة زمام المبادرة وكسر أسوار عزلتها والنجاة من أسر مركزية العاصمة فضلا عن مواجهة احتكارها للانشطة الخدمية فوزارة الثقافة ليست وزارة للمثقفين وانما هى لمن يحتاجون لتثقيف أنفسهم والارتقاء بحواسهم وتأهيل الذائقة.
و فى «العرابة» رأيت بعينى وأنا وسط أهالى القرية جهد قيادات الوزارة وعلى رأسهم مدير الاوبرا الدكتور مجدى صابر والدكتور خالد داغر رئيس البيت الفنى للموسيقى والغناء فى إتمام التجربة وانجاحها، فقد رأيت كيف فاوضوا بمرونة بالغة قيادات فى وزارات وهيئات اخرى لتمكين الناس من حقها فى دخول الحفلات.
لا أنكر فرحى البالغ بما رأيت وتمنيت من قلبى لو أن وزارة الثقافة توسعت أكثر فى التجربة بحيث لا تقتصر فقط على الموسيقى والغناء كنشاطات ترفيهية جاذبة وأملى أن تمد الخيط ليشمل تجارب وفنونا أخرى، ولتكن تلك الحفلات الناجحة بداية للتفكير فى عودة القوافل الثقافية التى صنعت مجد الوزارة فى الستينيات ولكن بصيغ جديدة تلائم التطورات فى المشهد الثقافى الراهن بحيث تشمل لقاءات جماهيرية مفتوحة مع بعض المبدعين من أبناء الأقاليم التى يتم اختيارها للحفلات المقبلة، فما المانع مثلا من تنظيم قراءات لكبار وشباب الكتاب فى المدارس والجامعات التى درسوا فيها، ولماذا لا توجه الوزارة الدعوة لكبار الكتاب لمتابعة التجربة وتوثيقها لتعزيز الجهد الاعلامى الذى يقوم به الزملاء من محررى الأخبار.
وأهم من كل ذلك لماذا لا يكون نجاح تلك الحفلات مناسبة للنظر فى ملف قصور الثقافة وتأكيدا جديدا على أهمية نشاطها فى مواقعها التى تعرضت لإهمال جسيم على مدى سنوات.
وكلى ثقة أن وزيرة الثقافة الدكتورة إيناس عبدالدايم المحبة للناس تستطيع بدأبها أن تفعل ذلك وتعيد الروح لهذه الهيئة من جديد.