هذه كلمات غرضها عزيزى القارئ التسريه عنك وجذب انتباهك بعيدًا عن الملمات والمصائب التى تدك رءوسنا كل يوم والفواجع التى لا تترك فى الصدر مساحة للهواء. على مسافة بعيدة من قضايا التعذيب والتراجيديا المصرية ــ الإيطالية المذهلة وعلى بعد أميال من مسألة بيع الأراضى والجزر ومعهما الكرامة والكبرياء، لفتت نظرى مبادرة أطلقها عدد من المتطوعين فى العاصمة النمساوية فيينا منذ أسابيع، سعيًا وراء تأمين الحركة فى شوارعها شديدة الازدحام.
لم يكن الهدف من المبادرة توفير الحماية للأطفال ولا تسهيل عبور الطرق على كبار السن ولا حتى مساعدة أصحاب الاحتياجات الخاصة على تجاوز مصاعب قد تصادفهم أثناء التجوال من مكان إلى مكان. كان الهدف حصرًا هو تقديم الدعم والرعاية للضفادع التى تعتزم الانتقال إلى مستقر جديد. لا تندهش على الإطلاق فليس فى الأمر أى خطأ مطبعى أو إملائى؛ «الضفادع».
لم تقتصر الجهود على ما قدمه المتطوعون، فاشتركت البلدية بدورها، وراحت تثبت اللوحات الإرشادية التى تدعو قائدى السيارات إلى الحرص والاحتراس حتى لا يسببوا الأذى والتوتٌر لجموع الضفادع العابرة للطريق. تذكرت الخبر بتفصيلاته أخيرًا وأنا أتابع العلامات المرورية التى انتشرت انتشارًا مذهلاً داخل القاهرة؛ عاصمتنا الحزينة المصابة فى تاريخها وجغرافيتها وشرايينها العتيقة المتكلسة.
مثلها مثل بلدية فيينا تمامًا، نشطت مجالس الأحياء القاهرية وراحت تنثر وفرة من العلامات التحذيرية هنا وهناك، لكنها لم تكن بشأن الضفادع. دوائرٌ ملونةٌ بالأزرق والأحمر تمنع وقوف السيارات توزعت فى مناطق حيوية وأخرى هادئة، فى شوارع تجارية كبرى وأخرى صغيرة سكنية، على يسار الطريق وعلى يمينه أيضًا. علاماتٌ لامعة وكأنها خارجة للتو من بين يدى صانعيها. لم يقف النشاط عند هذه العلامات، بل ظهرت أيضًا إشارات المرور الضوئية المزودة بكاميرات إلكترونية وتناثرت فى كل مكان، لا يفصل بين واحدة وأخرى أحيانًا أكثر من بضع عشرات الأمتار، وقد تعطلت غالبيتها بعد أيام من بدء التشغيل؛ عن عمد أو ربما قضاء وقدر لا مهرب منه.
***
عرفت أن مبادرة بلدية فيينا جاءت بمناسبة حلول موسم هجرة الضفادع الباحثة عن مكان ملائم لوضع بيضها، كما عرفت أن ضفادع النمسا تقع على قائمة الكائنات التى تنبغى حمايتها ورعايتها خوفًا من الانقراض.
استوعبت الأمر أكثر وفهمته بعدما أدركت أن فيينا تحديدًا حصدت لقب أفضل مدينة على مستوى العالم فى درجة الرفاهة وطيب العيش لسبع مرات متتالية. لم أفهم على الجانب الآخر، ولم تأخذنى مداركى إلى علة، ولا أسعفنى خيالى بسبب وجيه لذلك الانتشار المبهر لأنواع متباينة من العلامات المرورية فى أحياء القاهرة، خاصة وقد بدت عبثية الوجود.
مئاتٌ وربما آلاف العلامات والإشارات المثبتة فى الشوارع بكثافة هائلة، تفتقر فى توزيع أماكنها إلى المنطق، ولا يمكن استنباط أية محددات لوضعها؛ لا ترتبط بتقاطعات الشوارع ولا بمداخل الميادين ومخارجها ولا حتى بعبور المشاة، حتى ليبدو الأمر برمته عملاً فوضويًا بلا ضرورة ولا تخطيط، وكأنما قام شخصٌ مجهولٌ بإسقاطها عشوائيًا من السماء ثم اختفى. تنتصب العلامات والإشارات بلهاء فى أماكنها، دون أن تؤدى دورًا سوى مزيد من الإعاقة للمرور.
قيل فيما قيل إن هناك حتمًا من يستفيد من الأمر الغامض. صفقةٌ مثل سابقاتها التى أزالت أرصفة كاملة من بعض الأحياء وأعادت رصفها ببلاطات مشابهة، لا ميزة فيها ولا إعجاز، اللهم إلا جلب حفنة من المال إلى نفر من أصحاب النفوذ. أعترف أننى انبهرت بمسألة الضفادع، لكنى صرت أثق فى قدرتنا المتنامية على كسب منافسات الإبهار وعلى تجاوز المنافسين، وعلى كل تبقى أحوالنا غامضة – كما اعتدنا ــ على المستوى الرسمى، وواضحة فى استنتاجاتنا التى لا تلبث تتجسد على الأرض بمرور الوقت.
***
مع تكالب النكبات نسيت أمر الضفادع والإشارات، إلى أن عاد يطرق ذاكرتى منذ أيام خلال سفر قصير. زارنى مشهدٌ خيالى لجحافل ضفادع تعبر الطريق آمنة، وأنا أقود سيارتى على الطريق الصحراوى متجهة إلى الإسكندرية، ومارة بعشرات جثث الحيوانات الملقية على الجانبين؛ بعضها تحلل حتى ظهرت منه العظام وبعضها غرق فى دماء طازجة. أشحت بوجهى فى ألم مرات، ثم قلت فى محاولة خائبة للمواساة ألا بأس فنحن نملك وفرة من القطط والكلاب ويتفنن بعضنا فى تعذيبها بشتى الوسائل، فخيرٌ لها أن تقصر الحياة. حين لم تفلح تلك المحاولة قلت لنفسى ألا بأس ولا عجب فكثيرنا يقضى نحبه فى حوادث الطريق وكبارنا لا يجدون أرصفة للسير ويتعثرون وتتفتت عظامهم، فكل حى فى هذه البقعة من الأرض سواء، ولما ازداد ألمى وامتعاضى وفشلت المحاولتان قلت لا بأس ولا عجب ففى بلد يفترس أبناءه ويطعمهم للجلادين ويقبرهم فى السجون، تصبح أجساد الحيوانات الضعيفة المهروسة مجرد مشاهد مسلية على الطريق.
عذرًا إن كانت النهاية أقل طرافة من المتن، وأقسى قليلاً مما توقعت، فدوام الحال من المحال، ولا مهرب من الكلمات فى أوقات الكرب العظيم مهما فعلت.