لم أستغرب ردود أفعال المختصين، بل من داخل أوسط الرأى العام، تجاه الإعلان عن بدء هذه المفاوضات. الأغلبية ترى أنه لا يرجى من ورائها نفع، وتدلل على ذلك بمواقف الحكومة الإسرائيلية المعروفة، والانقسام القائم داخل صفوف الجانب الفلسطينى، فضلا عن ضآلة ما تمكنت الإدارة الأمريكية الجديدة من تحقيقه على مسار التسوية بعدما يقرب من العام والنصف على توليها السلطة. يضاف إلى ذلك أن مطلب الجانب الفلسطينى من أن تتصدر قضايا الحل النهائى، أى الحدود والقدس والمستوطنات وحق العودة، جدول أعمال المفاوضات المقبلة، لا يترك مجالا كبيرا للتكهن بالمصير الذى ينتظر هذه المباحثات.
وعلى الرغم من كل ما تقدم، أعتقد أن الساحة من حولنا قد شهدت تطورات بالغة الأهمية تبشر، إذا ما أُحسن استغلال هذه التطورات، بإمكانية حدوث اختراقات حقيقية فى عملية السلام المتعثرة.
أول هذه التطورات يتمثل فى نجاح أوباما، ولو بعد طول انتظار، وبأسلوب يمثل فى الواقع درجة متراجعة عن المفاوضات المباشرة، من إطلاق العملية السلمية. لم يتحقق ذلك من فراغ، فعلينا أن نتذكر حضوره للقاهرة والخطاب المفعم بالأمل الذى ألقاه بجامعتها، والضغوط التى مارسها على نتنياهو خصوصا فى اجتماعهما الأخير فى البيت الأبيض، والتى أجمعت كل التعليقات على أن رئيس الوزراء الإسرائيلى قد سمع أثناءه ما لا يرضيه من الرئيس الأمريكى.
التطور الثانى والذى أرى أنه ربما يفوق التطور الأول من حيث الأهمية، جاء فى إعلان الولايات المتحدة، وعلى رءوس الأشهاد، أن حل نزاع الشرق الأوسط إنما يرتبط ارتباطا مباشرا بالأمن الأمريكى القومى. قال هذا الجنرال ديفيد بيتريوس قائد عام القيادة المركزية للشرق الأوسط فى شهادة له أمام الكونجرس الأمريكى فى منتصف مارس الماضى، ثم قام أوباما نفسه بالإعلان عن ذلك وتأكيد هذه العلاقة«العضوية» بين حل مشكلة الشرق الأوسط والحفاظ على الأمن القومى الأمريكى وذلك يوم 13 أبريل الماضى. ووصل الحد بالاثنين إلى القول بأن استمرار النزاع فى هذه المنطقة إنما يعرض أرواح الجنود الأمريكيين المنتشرين على امتداد الشرق الأوسط الكبير من العراق حتى أفغانستان إلى خطر محدق! لم نسمع مثل هذا الكلام المحدد والواضح من قبل من أى مسئول أمريكى رفيع المستوى.
أما التطور المهم الثالث فهو أن إسرائيل قد وصلتها رسالة واضحة من حليفتها الكبرى. ملخص الرسالة أن على إسرائيل أن تمتنع عن الإضرار بالمصالح الأمريكية فى المنطقة سواء بوضع العراقيل أمام التسوية، أو محاولة جر الولايات المتحدة إلى مواجهة عسكرية من إيران لا يعلم إلا الله ما يمكن أن يترتب عليها. تستطيع إسرائيل بالطبع أن تسوّف أو تماطل أو تسعى إلى تحويل الأنظار تجاه قضايا بعيدة عن القضايا الجوهرية، إنما من الواضح أن الإدارة الأمريكية باتت واعية تماما لمثل هذه التصرفات الإسرائيلية وستسعى لوضع حد لها بعد أن توصلت بشق الأنفس إلى تدشين عملية التفاوض.
والتطور الرابع يتمثل فى أن الولايات المتحدة قد قررت، بعد فترة طويلة من التردد، أن تلقى بثقلها فى مسار العملية السلمية. صحيح أن المفاوضات غير المباشرة تُعد خطوة متراجعة عن المفاوضات المباشرة، إنما تعنى فى واقع الأمر أن مبعوث الرئيس الأمريكى سيكون عليه الدخول فى نقاش مع الطرفين حول مختلف الموضوعات التى يرغب كل جانب فى بحثها، وسيكون عليه أن يتقدم من جانبه بأفكار يمكن أن تساعد على تضييق الهوة بين مواقف الطرفين. بمعنى آخر فإن الولايات المتحدة وقد أمسكت الآن بملف النزاع، قد ارتقت فى الواقع إلى مرتبة الشريك الكامل وهو مطلب مصرى وعربى طالما نادينا به من قبل من أجل إمكان تحقق التقدم فى عملية السلام.
أضف إلى هذا أنه مادام جورج ميتشيل هو المبعوث الشخصى للرئيس أوباما، فالمتصور أن يبقى الرئيس الأمريكى على إطلاع كامل بتطورات عملية التفاوض ومدعوا للتدخل لتذليل العقبات التى قد تنشأ من وقت لآخر. مثل ذلك الموقف يذكرنا بموقف الرئيس الأمريكى الأسبق جيمى كارتر الذى كانت تلجأ اليه أطراف التفاوض طالبة تدخله فى أكثر من مرة وصلت فيها المفاوضات إلى طريق مسدود.
ليس أدل على ما تقدم أكثر من بيان الخارجية الامريكية يوم 9 مايو الحالى الذى جاء متزامنا مع انطلاق المفاوضات غير المباشرة. أكد البيان (وعلى عكس ما تدعيه إسرائيل) أن الولايات المتحدة قد حصلت على تعهدات من كلا الجانبين الإسرائيلى والفلسطينى، كما أنها قدمت من جانبها تأكيدات للطرفين بما يساعد على إحراز التقدم. لم تفصح الخارجية عن تلك التعهدات والتأكيدات لكنها أشارت بشكل خاص إلى التزام نتنياهو بعدم القيام بأية إنشاءات فى مشروع «رامات شلومو» بضواحى القدس الشرقية، ولمدة عامين.
غير أن الأهم، ما أعلنته الولايات المتحدة فى بيانها من «أن الطرفين على علم بأنه إذا أقدم أى منهما على اتخاذ إجراءات بعيدة الأثر أثناء فترة المفاوضات غير المباشرة تعتبر الولايات المتحدة أنها تقوض الثقة بشكل خطير، فإنها سترد على ذلك بتحميل ذلك الطرف المسئولية، كما ستضمن استمرار عملية التفاوض». تحذير لا يسهل تجاهله.
إلا أن كل هذه التطورات الإيجابية لا يجعلنا نركن إلى أن الأمور ستسير وفقا لما نشتهى، لأن ذلك لن يحدث، أخذا فى الاعتبار الضغوط التى سيمارسها اللوبى الإسرائيلى سواء مباشرة، أو عن طريق الموالين له فى الكونجرس، أو بسبب المراوغات الإسرائيلية المعروفة. لا نستطيع أن نترك الجانب الفلسطينى يخوض هذه المعركة بمفرده حتى مع وجود الشريك الأمريكى. يحتاج المفاوض الفلسطينى إلى دعم عربى وحشد منسق للجهد يأتى بالتوازى مع كل خطوة يخطوها الجانب الفلسطينى على مسار التسوية. لا شك أن الدول العربية قد اتخذت موقفا مهما ومحمودا عندما قررت اللجنة الوزارية لمبادرة السلام العربية يوم أول مايو الحالى إعطاء الفرصة للمفاوضات غير المباشرة لأجل معلوم، مع عدم الانتقال إلى المفاوضات المباشرة قبل إعادة تقييم نتائج المفاوضات غير المباشرة.
كما أقرت اللجنة عددا من الخطوات لدعم الموقف الفلسطينى سواء بإمكانية الالتجاء إلى مجلس الأمن، أو عرض القضايا ذات الصلة على محكمة العدل الدولية، ومجلس حقوق الإنسان، ومنظمة اليونسكو. يعنى ذلك أن الدول العربية قد قررت أن تظل ممسكة بملف النزاع وتراقبه وتتابعه دون انقطاع، وتتدخل إذا تطلب الأمر ذلك.
غير أنه استكمالا لهذا التحرك، يمكن التفكير فى تشكيل وفد عربى على أعلى مستوى ممكن للتوجه إلى الولايات المتحدة للالتقاء بالمسئولين فى الإدارة، وأعضاء الكونجرس وأجهزة الإعلام، ومراكز البحث، والجمعيات الأهلية، والمنظمات العربية، من أجل دعم الموقف الفلسطينى وإبراز عناصر مبادرة السلام العربية التى أصبحت بالفعل وباعتراف الجميع من مرجعيات عمليات السلام الأساسية.
علينا أن نأخذ فى الاعتبار أيضا التطورات التى حدثت داخل المجتمع الأمريكى ومن داخل الجالية اليهودية نفسها، وبالذات تلك الأصوات التى ضاقت ذرعا بالتصرفات والممارسات الإسرائيلية التى تنال فى الواقع من المصالح الأمريكية فى المنطقة، بل هناك أصوات تجاهر الآن بأن الوقت ليس فى صالح إسرائيل. وهناك من يطالب من داخل المجتمع الأمريكى بتضييق الخناق على إسرائيل أسوة بما اتبع تجاه جنوب أفريقيا حتى تم إسقاط نظام التفرقة العنصرية.
من المهم أيضا أن يمتد نشاط الوفد وجولته إلى القارة الأوروبية، حيث اتخذ الاتحاد الأوروبى مواقف متقدمة للغاية فى تأييد الحقوق الفلسطينية بما فى ذلك القدس وحل الدولتين. ولعل احتمال انضمام حزب الديمقراطيين الأحرار، بمواقفه المتعاطفة تجاه القضية الفلسطينية، إلى حكومة حزب المحافظين التى فازت بأكبر عدد من المقاعد فى الانتخابات البريطانية الأخيرة، وهو ما يشد أزر الفلسطينيين فى معركتهم السياسية المقبلة، ويضمن توافر آذان صاغية أمام الوفد العربى أثناء زيارة يقوم بها إلى العاصمة البريطانية. ولا يكتمل التحرك العربى إلا بامتداد الجولة إلى كل من روسيا والصين، وذلك من أجل دعم الموقف الفلسطينى فى المفاوضات من ناحية، والتمهيد لتحرك مقبل فى مجلس الأمن من ناحية أخرى.
أخيرا، لم يكن مستغربا أن تسارع إسرائيل إلى وضع العراقيل فى طريق التسوية، حتى قبل بدءالمفاوضات. تتحدث إسرائيل عن ضرورة أن تتصدى المفاوضات أولا وقبل أى شىء لقضية أمن إسرائيل. وتردد أن لديها قائمة تتألف من ثمانية إجراءات ستطالب إسرائيل السلطة الفلسطينية بالاستجابة لها! من ناحية أخرى تسعى إسرائيل مع الولايات المتحدة، ومع الرئيس أوباما شخصيا إلى تأجيل بحث قضية القدس لأطول فترة ممكنة. وفى هذا الخصوص التقى الناشط اليهودى الحاصل على جائزة نوبل للسلام إيلى فيزل مع «صديقه» أوباما مؤخرا، وذلك بناء على طلب من نيتانياهو، لمحاولة إقناع الرئيس الأمريكى بمثل هذا التأجيل. ونسب إلى فيزل بعد المقابلة قوله بأنه خرج بانطباع بأن أوباما أبدى «احترامه» لهذه النصيحة (المخلصة جدا بالطبع).
علينا أن نتوقع مثل ذلك وأكثر خلال الفترة المقبلة حتى فى ظل التعهدات الإسرائيلية والتأكيدات الأمريكية، ومن هنا تبرز أهمية تحركنا العربى بالسرعة اللازمة والعمل على إجهاض أية محاولات إسرائيلية لعرقلة المسيرة السلمية بشتى الطرق وبمختلف الأساليب.