تَحَــايُل - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 12:46 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

تَحَــايُل

نشر فى : الجمعة 15 مايو 2020 - 9:40 م | آخر تحديث : الجمعة 15 مايو 2020 - 9:40 م

منذ سنوات خَلت، وضع الناسُ شريطةً سوداءَ مائلةً على صدورِهم، بدلًا مِن حزام الأمان المُفترَض وجوده في السياراتِ كلها؛ بغرضِ خِداع رجالِ المُرور، ومَنعِهم مِن التفكير في تحصيل الغرامة المُقرَّرة عند غيابِ الحزام. في الإطار ذاته؛ صار عرفًا أن يُلصِقَ السائقُ على زجاج نافذتِه ورقةً مُربَّعة صغيرة؛ تفيد حصوله على المخالفة المستحقة حال تركِ عربته بمكان يُمنَع الوقوفُ فيه، وتحميه بالتالي مِن الحصول على مُخالفةٍ حقيقية؛ يُفكر في تحريرها ضابطُ شرطة أو أمين.
***
التحايُل خِصلة أصيلة؛ لا تزول بمرور الوقت، ولا يتوقَّف الناسُ عن التعامُل مِن خلالها على تبايُن المَواقِف والظروف؛ ولا شك أن المِصريين قد اكتسبوا على مَرّ العصور مهاراتٍ هائلةٍ تقوم على المُناورة والتلاعب؛ مكَّنتهم مِن التعايُش مع أوضاع صعبة وقاسية، من بينها ولا شك تلك الأوضاع التي خلقها الاحتلالُ؛ القرارت التي دأب على صكّها، والأوامر والنواهي التي انكبَّ على تنفيذها بعنتٍ وصلف، والتي جعلت الناسَ يبتكرون ما يتيح لهم تجاوزَها ومُمارسة حيواتهم بصورةٍ طبيعية.
***
بعضُ الشعوب تتميَّز دون الأخرى بالقدرةِ المُبهِرة على الالتفاف حولَ القواعدِ والضَّوابط واختراقها؛ بمهارةٍ رفيعةٍ وبطُرق لا تخطُر على بال، ويُقال إن قاطني حوضَ البحر المتوسط القريبين منا جغرافيًا، يتمتعون مثلنا في مَسلك التحايُل؛ بقدرٍ لا بأس به مِن الحنكةِ والمُراوغة وبكثير مِن الذكاءِ والإبداع. على سبيل المثال؛ يشتهر الإيطاليون بابتكار الوسائل البارعة التي تُمكّنهم من تجاوز العوائق والعقبات في تفاصيل الحياة اليومية، والتي تسمح لهم بالقفزِ على مُحاولات الضَبطِ والتقويم.
***
خلال الأشهرِ القليلةِ الماضية، اتخذَت حكوماتُ الدُّوَل في مُختلَف أرجاءِ الأرض إجراءات صارمة، وتدابير احترازية مُكثَّفة؛ في مُواجهة العدوى المُتنامية. ألزمت الحكوماتُ الناسَ بيوتَهم، ونشرت في وسائلِ الإعلامِ تحذيراتَ وإرشاداتَ، وعمَّمَت بعضَ المُصطلحات وعلى رأسها: "التباعد الاجتماعيّ"، كما طلبت مِن كُل مواطن أن يحدَّ من وجودِه في الشوارع والأمكنةِ العامَّة، ومِن اختلاطِه بالآخرين، بل وجعلته شريكًا في المسئوليةِ عن حمايةِ نفسِه وحمايةِ مَن حَوله مِن انتشار المَرض وتبعاته.
***

لا نملك بياناتَ وإحصاءات مُدقَّقة عن مدى استجابة الناسِ في أنحاءِ العالم، وعن مَبلغ التزامهم بالتعليماتِ الرسميَّة المُضجِرة، لكن الأنباءَ المُتواترة مِن هنا وهناك، والقَصَص التي يجري تداوُلها عبر موَاقِع التواصُل الاجتماعية، تشير إلى أن بعضَ الشعوبِ أبدت التزامًا أقلَ مِن أخرى، وأن هناك مَن تحايلوا كالعادة بما تأتَّى مِن وسائل؛ للهَرَب مِن العزلة الجبريَّة.
***
في بعض المُدن الإيطالية توارَدت حكايات عن أعدادٍ كبيرة مِن الأشخاص، تسلك مسلكًا واحدًا، فتجتمع قبلَ بدءِ مَوْعِد حظرِ التجوَال في مَنزل مِن المنازل، ويقضي الندماءُ ليلتهم سويًا؛ يتسامرون ويمارسون ما عَنَّ لهم مِن ألعاب مُسلية، وربما يتبادلون الأخبار عن هؤلاء المحظورين، إلى أن تنتهي الساعاتُ المُحدَّدة فيخرجون مِن جديد.
***
تحايَلنا هنا بصورةٍ مُشابِهة على أوامرِ العُزلة والحَظر؛ فعدد غير مَعلوم مِن المقاهي أغلقَ أبوابَه ظاهريًا، لكنه كان يفتحها خِلسةً لإدخال الزائرين، ثم يعاود إغلاقَها عليهم؛ اتقاءً لعقوبة مُتوقَّعة حال انكشاف الأمر. مقاهٍ أخرى لم تكتف باستقبالِ الزبائن، بل راحت تقدم لهم "الشيشة" وتتخذ أسبابَ الحِيطة والحذر حتى لا يتسرَّب دخانها إلى الخارج؛ فيكشف المستورَ بين الجدران.
***
الرغبةُ في التواصُل عميقةٌ وجِذرية عند البشر كافة، ومُحاولة التغلُّب على ما يُعطلها أو يمنعها؛ هي مُحاولةٌ واردةٌ ومَفهومة وإن كان السياق قاهرًا. نشرت صحيفة واشنطون بوست خلال الأيام الماضية خبرًا عن مَطعمٍ شَهير؛ قرر إذ فجأة أن يفتحَ أبوابَه ويستقبل الزبائن برغمِ أوامر المنع، وقد جاءت الصحيفة بصور لعشرات الأشخاص الذين توافدوا على المَطعم في سَعادة، غير عابئين باحتمالات العدوى وتوقعات استشراء العِلَّة؛ لكن هذا الفعل المُحمَّل بدلالات التحدّي، قُوبِل بإغلاقٍ جَبريّ نفذته قواتُ الشُّرطة؛ فأصحابُ المَطعم لم يسلكوا مَسلَك التحايُل ولم يُمارسوا ألاعيبَ الدهاء والتخابُث، ولو فعلوا مثل أقرانهم في مَواضِع أخرى؛ ما أدرك المسئولون شيئًا وما تعرَّض المَطعمُ للغَلق.
***
طبيعةُ البشرِ تتخطَّى مَخاوفَهم في أحيانٍ كثيرة، والانتقال مِن الحالِ الطارئةِ قصيرةِ الأجَل، إلى حالٍ مُزمنةٍ مُمتدَّة، ربما يكون كفيلًا بتهدئة التوترات، واستعادة ما توارى مِن طِباع.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات