ها هو رمضان الرابع لى فى الولايات المتحدة الأمريكية قد مر، وها هو الاعتياد على تفاصيل الحياة هنا يفرض نفسه ويهدينى لحظات من السعادة الحقيقية على الرغم من آلام الغربة وقسوة الابتعاد عن الأهل.
أشارك كل أحد فى مباراة لكرة القدم مع مجموعة رائعة من الفلسطينيين والمغاربة والتوانسة والمصريين والباكستانيين والهنود واللاتينيين ومن يحضر على سبيل الخطأ من الأمريكيين السود والبيض. الأغلبية الساحقة بين اللاعبين هى لمتوسطى العمر من أمثالى، ويرافق البعض أبناءهم وبناتهم من الشباب الذين يضفون سرعة وحيوية على لهاثنا خلف الكرة. وبينما يشارك غير العرب فى مباراة الأحد فى صمت وبوجوه تتأرجح ملامحها بين الفرح والهدوء، ترتفع أصواتنا نحن العرب باستمرار ونتسبب فى توقف سير اللعب كثيرا. فهذا يعترض ضاحكا على قواعد احتساب المخالفات، وذاك يطالب صارخا بضربة جزاء دون سبب واضح، وآخر يشكو عدم توازن الفريقين ويقترح إعادة توزيع اللاعبين بين الفريق الأبيض والفريق الملون، وهناك صديقنا المغربى (ح) صانع الألعاب الماهر للفريق الأبيض الذى يعقب على كل هجمة ضائعة لفريقه بكلمة «غير معقول» باللغة الإنجليزية وكلمات أخرى لا مجال لذكرها.
غير أن ارتفاع أصواتنا والتوقف المتكرر للعب وكلمات (ح) جميعها أمور لا تقلل من السعادة التى تغمرنا أيام الأحد ومن ضحكنا المتواصل خاصة عندما يشرع الصديق المصرى (ع) الملقب بأنييستا (تيمنا بصانع الألعاب الشهير لفريق برشلونة) فى التعليق على المباراة أثناء سيرها. خلال شهر رمضان الكريم تغير موعد المباراة من صباح الأحد إلى الساعتين الأخيرتين قبل غروب الشمس، ونظمنا مباريات إضافية فى أيام أخرى. أعادتنى ممارسة الرياضة صائما إلى أجواء القاهرة قبل آذان المغرب وذكريات سنوات طويلة خلت حين كنا نعود أخى أحمد وأنا إلى منزلنا قبل دقائق قليلة من الآذان ونحن نتصبب عرقا بعد لعب كرة القدم أو التنس وكان لقطرات المياه الأولى مذاق لم أعرفه بعدها أبدا.
الاعتياد على حياة المنفى فى هذه الجهة الأخرى من العالم أهدانى انفتاحا على الناس من حولى ومكننى فى صيف ٢٠١٨ من الاستمتاع ببعض الطقوس الرمضانية التى افتقدتها كثيرا خلال السنوات الماضية. شاركت فى إفطار جماعى نظمته فى منطقة قريبة من مدينة سان فرانسيسكو جمعية أهلية للمسلمين الأمريكيين اسمها «تأليف» (والمسمى يرمز إلى هدف الجمعية المتمثل فى تأليف قلوب الناس من المسلمين وغير المسلمين وحثهم على الإسهام الإيجابى فى المجتمع ومواجهة المقولات العنصرية وخطابات الكراهية والتطرف)، ودعتنى إليه صديقة مصرية تعيش فى شمال كاليفورينا منذ سنوات.
بهرنى التنوع الواضح بين المشاركين فى الإفطار، اختلط المسلمون وغير المسلمين واختلطت الملامح وألوان البشرة واللهجات واختلطت اللغات وإن غلبت طبعا اللغة الإنجليزية. بهرنى التنظيم الرائع للإفطار الجماعى الذى لم يقتصر على تناول الطعام وصلاة المغرب لمن يرغب، بل امتد إلى كلمات هادئة وهادفة من مسئولى جمعية «تأليف» عن أوجه نشاطها الخيرى وعن احتياجاتها من المتطوعات والمتطوعين فى مجالات بعينها (كالرعاية الصحية للفقراء ومحدودى الدخل فى سان فرانسيسكو والمناطق المحيطة بها والمساعدة القانونية للمقيمين غير الشرعيين من الأمريكيين اللاتينيين الذين تضيق عليهم الخناق سياسات إدارة ترامب) وعن الخدمات الجديدة التى تقدمها الجمعية (مثل التأهيل النفسى للأطفال ذوى القدرات الخاصة والعلاج النفسى لضحايا العنف المنزلى من النساء والأطفال).
كانت أيام شهر رمضان الكريم فرصتى الأولى أيضا للاقتراب من أسر مصرية ــ أمريكية تجمع بداخلها إما جيلين أو أكثر. فجيل الأمهات والآباء الذين قدموا الولايات المتحدة من مصر واستقروا بها يتبعه فى بعض الأسر جيل الأبناء وفى أسر أخرى جيل الأبناء وجيل الأحفاد. أعجبتنى واقعية تلك الأسر فى إدراكها لهويتها المصرية ــ الأمريكية، وكذلك ممارستها للتسامح بين أفرادها.
البعض يتحدث اللغة العربية، والبعض الآخر لا يفهمها. جيل يقوم المنتسبون له لصلاة المغرب، وجيل آخر ينشغل بمتابعة الدقائق الأخيرة فى مباراة مشتعلة لكرة السلة. أبناء للمصريين ــ الأمريكيين تزوجوا من مصريين ومصريات، وغيرهم ممن اختاروا الارتباط بأمريكيين ذوى أصول غير مصرية دون أن يقلل ذلك من القبول والاحترام والتقدير (على الأقل فيما خص المظاهر الخارجية التى راقبتها). وحديث لم يتوقف هنا عن هموم جيل الأمهات والآباء المغتربين عن مصر والحالمين دوما بالعودة إليها، وحديث مغاير هناك عن محاولات فاشلة للعودة إلى مصر والاستقرار بها تتبعها عودة عكسية إلى الولايات المتحدة حيث التعليم الأفضل والرعاية الصحية الأشمل والحياة المنظمة التى لا تنقصها غير رؤية الأهل فى الوطن البعيد بين الحين والآخر ولا تعكر صفوها غير جنون السياسة الأمريكية وصعود اليمين المتطرف الذى يهيمن على إدارة ترامب (والذى تظل ولاية كاليفورنيا هى الأكثر ابتعادا عنه وعن سياساته غير الإنسانية باتجاه المهاجرين والمقيمين غير الشرعيين).
يبدو أن لنا نحن البشر قدرة لا نهائية على التأقلم مع تقلبات حياتنا، والتعامل بواقعية مع تعرجات سيرنا الذاتية. فلا بلاد الجهة الأخرى ستظل عصية على الاعتياد عليها، وحتما ستصل ذكريات وأماكن وسنوات العيش فى الوطن البعيد إلى شواطئ النسيان. فقط الأهل، مقابر من مات منهم وديار الأحياء بينهم، هم الذين لا يتغير ألم فراقهم ولا يتبدل الحنين إلى العودة إليهم والنزول منهم منازل المحبين المقربين.