مارك أمجد قاص وروائى إسكندرانى شاب، من مواليد العام 1994، لفت نظرى بمعالجاته الجريئة، وبقدرته المميزة على التعبير عن نفسه، وعن جيله بالضرورة، وبدا لى أننى أمام موهبة حقيقية كبيرة، وجدت صوتها بشكلٍ مبكر، وما زال لديها الكثير لتقدمه، ولكنها موهبة تستحق المتابعة فى كل الأحوال. فى روايته القصيرة الأحدث الصادرة عن دار المحروسة بعنوان «الوصفة الفرنساوية للفوز بماما»، تتبلور فى عدد قليل من الصفحات، يقترب من المائة صفحة فقط، ملامح ذات وجيل مأزومين، يحاولان أن يجدا منفذًا أو قشة للتعلّق بها. يصف مارك بكل قوة عناصر تلك الأزمة، التى جعلت بطله الشاب شاعرًا بالمهانة والإذلال والحصار، ثم وضعته فجأة فى قلب حفلة صاخبة، فى منزل مدرّسة فرنسية عجوز، تعيش فى الإسكندرية، فما الذى يحدث عندما يجد شخص خارج الحياة نفسه فى قلب حياة ملونة وصاخبة؟ هل يتركه واقعه المذلّ؟ وهل ينجح فى الهروب وفقا للوصفة الفرنسية؟ ليست النوفيلا فى هذا التلخيص، ولكنها فى ما وراء السطور، وفى براعة مارك فى رسم شخصياته، بمأزقهم الاجتماعى والنفسى، وبتفاصيل ناطقة وصادمة، وبألوان الواقع الخشن، ولغته الصريحة. بطله مسيحى، لديه تاريخ عائلى مؤلم مع الأب والأم، بما يذكرنا بقوة ببطل روايته البديعة «وديعة لينين»، واسم البطل لا يذكر صراحة، كل ما نعرفه أن المدرّسة الفرنسية تنطقه بالغين، أى فيه حرف الراء، مثل مارك مثلًا، ورغم أن الشخصية متعلمة، وربما مثقفة أيضًا، لأن صوته كسارد يعلن عن ذلك، فإن حياته العملية امتدادٌ لقهر وألم الطفولة، فقد عمل فى جاليرى بمرتب هزيل، وانتقل للعمل فى شركة للإنتاج السينمائى، تخفى أعمالا مشبوهة، وتديرها شخصية يطلق عليها اسم «الحوت»، وتبدو كما لو كانت بديلًا لسيطرة الأب، وسلطته البطريركية، مما يبرر هروب بطلنا من العمل، والاختباء فى حفل روز المدرّسة الفرنسية، التى يراها كبديل للأم. تلك الحالة الخاصة ستفتح بالضرورة على أزمة جيل كله، ومثلما رأينا فى تعرية عالم الصحافة والمثقفين فى «وديعة لينين»، هنا أيضا شركة إنتاج سينمائى وهمية، وعلاقات غير متكافئة بين شاب وحوت كبير، لا نعرف كيف تسلل من عمله الرسمى السلطوى إلى السينما؟! ولكن مأزق بطل الحكاية الشاب لا يتعلق بالتهميش فحسب، ولكن بالمهانة، والرغبة فى إذلاله، مما يدفعه إلى تمرد فى الاتجاه العكسى، بإقامة علاقة مع زوجة الحوت، لتعويض هذا الإذلال، وللرد على السلطة الأبوية. ومواجهة فكرة القهر عمومًا هى إحدى الأفكار المتكررة فى أعمال مارك، ومن أبرز محاولاته لمعالجة وتحليل نظام الأوامر والتسلط، روايته الأشهر «البطريركية». السرد يتأسس أيضًا على ركيزة نفسية، بحيث يمكن أن تُقرأ الرواية باعتبارها رد فعل على الضرر الذى وقع على طفل، عانى من مشاجرات الأب والأم، وعانى من سيرة الخيانات المتبادلة، وكان يمكن للعمل الناجح أن يعيد غرس جذور شخصيته المعلّقة فى الهواء فى أرض جديدة، ولكنه وجد فى عالم الوظيفة ما يكرر معنى السلطة والقهر والإهانة، فأصبحت الحفلة، وروز الفرنسية، هى الفرصة الأخيرة المتاحة للنجاة. يقوم بناء النوفيلا على فصلٍ افتتاحى عن علاقة السارد بالحوت، ووصف محنة العمل والإذلال، وفصل ختامى يعترف فيه السارد بمحاولته أن يجعل من روز وسيلته للنجاة، ولو حتى بالزواج، والسفر إلى فرنسا، وبين الفصلين تفصيلات الحفلة، وحكايات بعض ضيوفها من المصريين والأجانب، وما حدث فيها من مفاجآت غير متوقعة. لا يتكلم السارد فقط عن نظرته لحياة روز، واستمتاعها بالحياة، وهى فى سن كبيرة، فى مقابل شعوره بالعجز والشيخوخة والفشل، وهو فى سن الشباب، ولكن هذا العالم المغاير، يصبح مناسبة لتحليل ثقافتين متباعدتين، ومناسبة أيضًا لتقديم نماذج غريبة، تحاول الاستفادة من روز، ومن اختلاس ساعات قليلة من البهجة، والشخصيات فيها الكثير من التناقضات، وتكشف عن أقنعة كثيرة، تختبئ وراء المظاهر والادعاءات. وفى اللحظة التى نظن فيها أن من الممكن أن ينسى الشاب واقعه، أو على الأقل تتأجل همومه، يقتحم الواقع الحفلة، وتتجلى من جديد السلطة الأبوية، بكل قوتها وخشونتها، ويصطدم هذا العالم الملوّن، بواقع مصرى مشوه، ويواجه الشاب محنة خطيرة وقاسية، ويبدو الأمل فى أن ينفد بجلده من عقاب مروع، لا فى أن يحصل على فرصة كاملة للحياة. تنويعات السلطة الأبوية عند مارك ثرية للغاية، فرئيس العمل صاحب سلطة، يحاسبه على القديم والجديد، ويهدده بالقتل، والجار المتزمت دينيّا، يحمل سلطة أشد، بادعاء الدفاع عن السماء، وفكرة السلطة مرتبطة دومًا بالعقاب، وبالخوف، وبالرغبة فى الهرب، أما الانتقام المعاكس فهو غريب، ولا يحقق الكثير، لأنه ليس انتقامًا بالمواجهة، ولكنه تعويض غير مباشر، سرعان ما ينكشف، وسرعان ما يضيف مزيدًا من المعاناة والخطر. ولكن روز تمتلك أيضًا سلطة تجعلها قادرة على مواجهة السلطات التى اقتحمت منزلها، وكل ما حققه بطلنا، المهمش والمعاقب والمهان كأبطال كافكا، هو أن يشاهد مباراة فى التحدى، وأن يختلس النظر إلى الأجساد، وأن يشرب خمورًا أغلى، وأن يعتبر نفسه، مؤقتًا، جزءًا من النخبة، رغم أنه يعرف أنه ليس كذلك. يتحول الحفل فى بعض أجزائه إلى مسخرة كاملة، تبعث على الضحك، وتحمل تعليقات السارد مرارة كبيرة من ازدواجية المصريين، ومن تناقضاتهم، كما أنه يدرك أيضًا أن العالم الفرانكفونى، ودنيا روز، لا تخلو أيضًا من التناقضات، والسارد أيضًا مثقل بتناقضاته الداخلية، بقدر ما هو أيضًا مثقل بعقله الذى لا يتوقف عن التفكير والتأمل. تبدو الحكاية بلا نهاية، وتبدو أيضًا كحكاية شخصيات وحالات، رغم وجود حبكة وعقدة وحل، ولكنه ليس حلا على الإطلاق. فاز مارك بجائزة الدولة التشجيعية 2024 عن روايته «القبودان»، وأتوقع له جوائز كثيرة قادمة، وروايات ناضجة، تشهد على موهبته، وتعلن عن جيله الحائر، بين القهر والتمرد.