فى الميثولوجيا الإغريقية تقضى الآلهة بعض أوقات فراغها أحيانا فى ألعاب ومنافسات متعددة، من بينها لعبة الحياة والموت التى تكتب نتائجها مصائر البشر وتخط تقلباتها حدود السعادة والنجاح والشقاء والفشل فى حياتهم وعند وبعد مماتهم.
وعلى شاكلة آلهة اليونان، تنظر نظم الاستبداد إلى مصائرنا وحظوظنا فى الحياة وعند الموت كمجال لفعلها الأحادى ولسيطرتها الشاملة. فقط فيما خص ما بعد الممات، تمتنع أغلبية الديكتاتوريات عن تعيين هوية الفرق الناجية وصنوف ساكنى الجحيم ــ باستثناء بعض الديكتاتوريات شديدة العبثية التى تدعى امتداد خطوط رضائها وغضبها إلى ما بعد الحياة الدنيوية، وباستثناء ممارسات فلوكلورية تتورط فيها أيضا بعض الديكتاتوريات كتحنيط الديكتاتور / الحاكم الفرد / البطل المنقذ بعد موته وادعاء خلود أثره ودوره أو صناعة هالات شبه آلهية حول الحاكم وتحميلها بالمضامين الخلاصية بعد موته هو لهذه حياتنا نحن وما بعدها، وباستثناء فانتازيا إخفاء موت الديكتاتور فى خريف البطريرك لجابرييل جارسيا ماركيز.
فالنزوع إلى التحكم فى مصائر الناس يمثل هاجسا أساسيا لنظم الاستبداد، شأنه شأن عصفها بسيادة القانون وشأن قوانينها الاستثنائية وشأن انتهاكاتها الدائمة لقيم العدل والحق والحرية والعقل وشأن استتباعها جميع مؤسسات وأجهزة الدولة وكافة قطاعات المجتمع والمجال العام لسلطة الحاكم الفرد الذى لا يراقب ولا يساءل ولا يحاسب وشأن فرض الخوف والحزن والتهديد المستمر بالقمع على ضحاياها من شعوب تقع فى قبضتها وفى قبضة جنون حكم الفرد.
فى نظم الاستبداد، قيمة حياة المستتبعين والمؤيدين والتابعين والمطيعين ــ ووجهة هؤلاء دوما هى الحاكم الفرد الذين يربطون بوجوده حظوظهم من السعادة والنجاح والثروة وفرصهم فى الترقى المجتمعى الصاعد وحمايتهم من الخوف والقمع ــ تختلف جذريا عن النظرة إلى حياة المعارضين والمغردين خارج السرب والباحثين عن الانتصار لكل ما يلغيه الاستبداد من عدل وحق وحرية وعقل والذين تسهل للغاية «التضحية بحياتهم» وبحقوقهم وحرياتهم لكى تعيش «قطعان المستتبعين والمؤيدين» دون «أولئك المتآمرين وكارهى الوطن» المختزل فى الاستبداد والحاكم الفرد.
وتختلف جذريا، أيضا، مصائر قطعان المستتبعين والمؤيدين عن مصائر المغضوب عليهم، من مراوحة الأولين بين الحدود الدنيا من العيش والحماية من القمع وشىء من الضمانات الاجتماعية وبين الحدود القصوى للثروة والنفوذ والترقى إلى الحرمان النسبى أو التام للمغضوب عليهم من الحماية ومن فرص الترقى وتهديدهم المستمر بالقمع وبانتهاك حقوقهم وحرياتهم على نحو يشوه إنسانيتهم.
وتختلف جذريا، أخيرا، لحظات موت قطعان المستتبعين والمؤيدين الذين يجدون من يودعهم رسميا أو يشارك رسميا فى وداعهم أو لا يحول دون الوداع العلنى عن لحظات موت «المغضوب عليهم» من قبل نظم الاستبداد وحكامها الأفراد الذين يتجاهلون أو يهمشون أو يشوهون بعد الممات كاستمرارية لممارسات التشويه والقمع والتهديد التى يتحملونها فى حياتهم.
هكذا يغرق الاستبداد فى لعبة الحياة والموت وفى تحديد مصائرنا وحظوظنا، بإلغاء تام لكل القيم الأخلاقية والإنسانية وبإلغاء كامل للعقل وفرض شامل للجنون.