يظهر الطفلُ في الإعلان وقد صَبَغَت ملابسَه بُقعةُ شوكولاتة أو طماطم؛ تُوصَف بأنها صعبةٌ مُستعصيةٌ على المَساحيقِ العاديةِ، لكن الأمَ تُسرِع بمُزيلِ البُقَع المُراد تسويقه، وتسكبه على المَوْضِع المَنكوب، ليعودَ في دقائق مثلما كان. بعضُ البُقع لا تزول؛ بل كثيرًا ما يثبتها السائلُ الكيميائيّ في مكانها، فإن استغاث الواحدُ بمُتَخَصِّص كي يقومَ بتنظيفها، جاء الردُّ: قد فات الأوانُ وصارت والنسيجُ الذي أصابته واحدًا.
• • •
البقعةُ في مَعاجم اللغةِ العربيةِ هي مساحةٌ من اللوْن تختلفُ عما يُحيطُ بها، هي أيضًا الجزءُ من الأرضٍ إذا تميَّز عما حوله، والجمع بُقع وبِقاع، فإن أراد الواحدُ التدليلَ على ذيوع شيء ما، قال إنه منتشر في بقاعِ الأرض، وإذا امتد الحديثُ عن المُسمَّيات؛ عجز المرءُ عن تناسي مَعركة سهلِ البقاعِ؛ تلك المَنطقةُ التي تقع في لبنان، والتي صارت سماؤها عنوانًا لمُواجهةٍ جَويةٍ حاسِمة، جرت في مَطلع الثمانينيات وانتهت بتفوُّق كاسح لطيران العدوِ الإسرائيليّ، لا يزال أثرُه حاضرًا حتى الآن.
• • •
إذا جاورت بقعةٌ لونيةٌ أخرى، فتداخَلت معها وتناغَمت وانسابَت؛ صنعت لوحةً فنيةً، قد تعوزها الملامحُ الواضحةُ المُفصَّلة، وقد تبدو من الغُموضِ بمكان؛ إلا أنها تسمَح لخيالِ المُتلقّي بالانطلاقِ والاكتشاف وإضفاءِ المعنى. يختلف عليها المُتفرجون في العادة تبعًا لذوائقهم، ويؤولونها كلٌّ بما جادت قريحتُه؛ لا يفصلُ بينهم سوى أن يُفصِحَ الفنانُ عن باطنه وهو أمرٌ بعيد المنال. التجريدُ مَدرسةٌ راسخةٌ بين مدارسِ الفنّ التشكيليّ، لا يعجب بها كثيرُ الناسِ إنما يمطرونها وابلًا من السُّخريةِ والاستهزاء، يرونها من صنعِ طفلٍ عابثٍ لا رؤية عنده ولا اجتهاد، والحقُّ أن غيابَ الخطّ الصَّريحِ لا يعيب، والبقعةُ المذمومةُ تحملُ مثلها مثل لوحاتِ المدارسِ الفنيةِ الأخرى فِكرًا وعمقًا وجمالًا، وعلى كلّ حال؛ لا يعرف الفنُّ حكمًا قاطعًا ولا يقبلُ بالنفي التام.
• • •
من البقعِ ما كان فعلُه مُؤسيًا وأثره مُخيفًا. بُقعةُ زيتٍ تمتد على وجه بَحرٍ، نَهرٍ أو مُحيط؛ بإمكانها أن تقتلَ الكائنات التي تعيشُ في الجَّوفِ، وأن تخلِفَ دمارًا بيئيًا يتعذَّر إصلاحه. بالمِثل؛ بقعةُ زيتٍ على قارعةِ الطريق؛ قد تنزلق بسببها عجلاتُ السياراتِ، فتدور حول نفسِها أو تنقلب، وربما انتهي الأمر بحادثٍ مُريع لا يخلو مِن ضحايا.
• • •
البقعةُ الميتةُ مُصطَلَح يُشير إلى بؤرةٍ مَحدودةٍ تقع على شبكية العَين؛ لا تستقبل هذه البقعةُ الصورةَ، ولا تؤدي العملَ التقليديَّ للخلايا الأخرى الموجودة في نطاقها، إنما هي ذات طبيعة خاصة لالتقاء أليافِ العَصَبِ البصريّ فيها. يُطلَق التعبيرُ ذاتُه على تلك النقطةِ التي لا تُرى في مرآة السيارةِ الجانبية، والتي يُمكن أن يخطئ السائقُ ويسهو، فيصطدمُ بالقادمِ منها.
• • •
ثمَّة أمكنةٌ تحملُ صبغةً دينيةً خالصة؛ بقاع مُقدَّسةٌ ترتبط بشعائر مَعلومة، يحتفي بها الناسُ ويتشوقون إليها، وبعض الأحيان يتعاركون طمعًا في الاستئثار بها. إذا قيل بُقعةٌ جرداء فالقصد ألا زرع فيها ولا ماء؛ قفرٌ قد خلا من مَظاهر الحياة وعلاماتها وعَزَّ أن تُرى فيه روح، وعلى النقيض منها تلوح بقعةٌ خصبةٌ؛ يترعرع فيها النباتُ عَفيًا ويزدهر. العواملُ التي تدعمُ وجودَ هذه أو تلك، تتعلق بجَودةِ الطمي ووفرةِ مصادر الريّ؛ فإن شحَّ أحدُهما مالت التربةُ إلى البوار.
• • •
قد يعاني أصحابُ البشرةِ الحسَّاسةِ بقعًا جلدية في مراحل العمر المختلفة؛ تسببها أشعةُ الشَّمس أو المُرطباتُ الصناعيةِ، وأحيانًا المنظفاتُ المألوفة التي لا تعد في الأحوالِ العادية مُؤذية. قد تتفاقم الحساسيةُ فيأتي ردُّ الفعلِ من مُجرد استخدام مياه الصنبور؛ إذ هي مُعالجةٌ بموادِ مُهيّجة لا تراعي العاجزين عن تكييفِ أجسادِهم وأحاسيسهم.
• • •
البقعةُ السوداءُ في الضمير تعبيرٌ شائع الاستخدام، يصِفُ ما شوَّه السَرائرَ، وما تجذَّر فيها مع تعاقُب الأيام. البقعةُ صبغةٌ لا تنمحي، والسواد يشير إلى مَبلغ الجُرم أو الخطأ. جرت العادةُ بألا يتلون الضميرُ؛ فإن فَقَدَ شفافيته وبات عَكِرًا مُعتمًا؛ ترك على وجه صاحبِه بصمةً دائمة. البقعةُ السوداء لم تكُن أبدًا واحدة في تاريخ الإنسانية وضميرها؛ إنما الثوب حافل ببقاعٍ مُتعدِّدة، لوَّثت نقاءَه ودَمَغت مَن شاركَ في صنعها.
• • •
بعضُ الناس يملِك قدرةً فائقةً على التأثير. يُشع فيضًا من التفاؤلِ ويُشيع ثقةً وأملًا، ويبثُّ في الأجواء حيويةً تهون الفعل، وإرادةً تذلل الصعابَ وتحفزِّ التغيير. يتحول بذاتِه إلى بقعةِ ضوءٍ في حيواتِ الآخرين، فإن غاب ترك غيابُه فراغًا لا يمكن ملؤه، وتعذَّرت الاستعاضةُ عنه بمَن سواه.
• • •
ثمَّة مَن يمثِّلون هم أنفسهم بقعًا في صفحات الماضي والحاضر؛ قَبُح فعيلُهم وتدنَّى منطقُهم. المسافةُ بين بقاعِ الضَّوءِ وبقاعِ البؤسِ واسعة؛ لكن الطريقَ واضحةٌ والمسارَ مَعلوم.