تصدرت صورة الرجل الصفحة الأولى لجريدة يومية، ليس لأنه قد أصبح محافظا ضمن ما يقرب من عشرة محافظين جدد تم تعيينهم، بل لأنه تخلى عن البذلة ورابطة العنق التقليدية، وظهر فى إحدى زياراته مرتديا جلبابا أبيض، لم يعتد أى مسئول حكومى ارتداءه خلال تأدية العمل الرسمى مِن قبل. تحتل الملابس جزءا لا بأس به من اهتماماتنا، لا يكاد يمر شهر واحد حتى يظهر حدث يتعلق بها، تتناوله وسائل الإعلام بكثير من التركيز، وتنهال حوله التعليقات من هنا وهناك.
●●●
لعبت الملابس أدوار بطولة متنوعة فى الفترة الأخيرة، ربما كان أشهرها «بلوفر» المرشح الرئاسى، الذى أصابته موجات متتابعة من السخرية، ثم بذلات أمين عام الجامعة العربية الأسبق التى وصفت بالأرستقراطية والأناقة المبالغ فيها، ومن قبل هذا وذاك أثارت صورة بملابس البحر لعائلة إحدى الشخصيات العامة زوبعة أخلاقية حادة، أما بعد انتهاء الانتخابات الرئاسية مباشرة، فقد سرقت ملابس زوجة الرئيس المنتخب الأضواء، وأصبحت محل جدل وعراك واضعة الناس على طرفى النقيض، هناك من رآها غير ملائمة للمنصب الرفيع، وهناك من اعتبرها الأفضل تمثيلا لما ترتديه شريحة واسعة من النساء المصريات المعاصرات، وهناك أيضا من رفض التدخل فى شأن خاص رغم استباحته فى مرات سابقة، فى كل الأحوال لم يتطرق المعلقون لما تمثله تلك الأزياء من أهمية سواء بالسلب أو الإيجاب، كما لم يتطرقوا أيضا للرابط بينها وبين سلوكيات وأفعال أصحابها (إن كان هناك رابط)، بل اكتفوا بالتنافس والتبارى على أفضل الأوصاف وأكثرها إثارة للضحك واجتذابا للآخرين.
برزت على الساحة أيضا أزمة الملابس الرياضية التى اكتشفت البعثة الأوليمبية أنها مزورة، وأنها تحمل علامات تجارية متعددة لشركات كبرى، وقد تناولتها صحف عالمية وليست محلية فقط، وفى تصريح مفاجئ، خرج رئيس الوزراء، يدعو المواطنين لارتداء ملابس قطنية، للتغلب على انقطاع الكهرباء المتكرر وشدة الحرارة؛ تصريح ربما حظى بالقدر الأكبر من النكات، خاصة وقد جاء بالتوازى مع حملة إعلانية مكثفة لعلامة تجارية شهيرة، متخصصة فى صناعة الملابس القطنية.
●●●
أظن أن أكثر الشخصيات إثارة لشهية المعلقين، كانت شخصية الرئيس المغتال معمر القذافى، الذى ظلت ملابسه محط أنظار جميع مستقبليه فى المطارات، والبلدان المسموح له بزياراتها، خاصة أنها ارتبطت بالصورة الكاريكاتورية التى رسمها لنفسه بالكلمات والإيماءات والتعبيرات المبتكرة، جاء لقب ملك ملوك أفريقيا مقترنا بعمامات وأردية وزينة، مثل تلك التى تستخدمها القبائل الأفريقية بالفعل.
لسنا وحدنا ــ مصريين وعرب ــ الذين نهتم بشكل الملابس، ففى مايو 2012 أثارت الوزيرة الفرنسية «سيسيل ديفلو» جدلا كبيرا بسبب حضورها اجتماع الحكومة مرتدية سروالا من الجينز، لم يكن الانتقاد الذى وجه اليها صادرا بالدرجة الأولى عن الجمهور بل عن جناح الأعضاء المحافظين، مع ذلك علقت وزيرة أخرى بأن ارتداء الجينز شىء حسن إن كان يحمل علامة الصناعة الفرنسية، بعد شهرين فقط تسببت الوزيرة نفسها، التى تحمل حقيبة الإسكان، فى أزمة أخرى بسبب ملابسها، انطلق نواب البرلمان فى الصفير بعد صعودها إلى المنصة مرتدية فستانا مزركشا بالورد، وسواء خرج الصفير عن إعجاب أو استهجان، فقد جاءت تعليقات الجمهور فى هذه المرة لاذعة، لتنتقد انهماك النخبة السياسية الفرنسية فى الجدل حول أزياء السيدات، بدلا من بحث مشكلات المواطنين.
●●●
يقال إن العبرة بالجوهر وليست بالمظهر وأن الملابس ما هى إلا غطاء خارجى لا يشى بالداخل، وأن الحكم على الأشخاص لا ينبغى أن يُبنى على أشكال دون أفعال، لكنى أظن أن المظهر أيا ما كان، يعكس جزءا خافيا منا، قد يدل على أسلوب التفكير ونمط الشخصية من حيث الالتزام أو الوسوسة أو الإهمال، وأحيانا ما يكشف عن المزاج من حيث الكآبة أو الانبساط، وقد يمثل فى بعض الأحوال إعلانا عن قناعات محددة أو تصريحا بهوية عقائدية، ربما يفصح أيضا عن مشكلات لا تجد لها حلا ولا متنفسا. صادفت مقالا فى إحدى الصحف اليومية، يتحدث كاتبه عن كم الملابس التى بدأت الفتيات المصريات فى السنوات الأخيرة ارتداءها، مجتمعة فوق بعضها، رغم عدم ملاءمتها لحرارة الجو، رأى المقال أن هذه الطبقات التى أصبحت تقليدا متبعا (سروال جينز ضيق، وفستان قصير دون أكمام، ومن أسفله بودى له كم طويل، وحجاب متعدد اللفات)، إنما تعبر عن محاولة الفتاة إرضاء المجتمع بتغطية ساعديها وساقيها ورأسها من ناحية، ومن ناحية أخرى إرضاء نزعتها الأنثوية ومسايرة الموضة وإظهار مفاتنها وجمالها. يبدو أنه فى ظل الصراع بين تلك الرغبتين، يغيب الجانب العملى والموضوعى عن التفكير ويفقد الأمر معناه، لا يصبح الحجاب حجابا ولا التَجَمُّل جَمَالا، بل مجموعة من القيود المادية والمعنوية فى مجتمع شديد المظهرية.
●●●
أذكر أننى قد زرت فى أحد الأيام كاتبة صديقة، تحتفظ فى منزلها بجلباب فلاحى تقليدى، شرحت لنا الصديقة عمليا ــ على الجلباب ــ كيف أنه يقوم بعدة وظائف فضلا عن مظهره الجميل، اتساع مدروس لاتقاء الحرارة، ثنيات يمكن عن طريقها توسيع الثوب عند الحاجة (أثناء الحمل مثلا)، فتحات متوارية عند مستوى الصدر لتسهيل عملية الرضاعة، ذيل أكثر طولا مراعاة لنوع الحركة التى تقوم بها، ومع كل المميزات المرتبطة بواقع الفلاحة العاملة، ظل الثوب مبهجا دون افتعال. عمر الثوب كفكرة وتصميم يجاوز مئات الأعوام، لكنه لا يزال حتى اليوم يدعو للإعجاب.