في مشهد من فيلم أجنبي ما، تدخل هذه الشقراء بارعة الجمال، بادية الرقة، مشرعة الأشياء، على أبيها في مكتبه الفخم الضخم، لتقول له باكية: «أحبه يا أبي أحبه أحبه وأريد أن أتزوجه!»، وهنا يزيح أباها الفخيم سيجاره الكوبي الأفخم من فمه الكريم، ويقول بهدوء لا يزعج المنديل الذي ربط به عنقه تحت جاكيت أنيق: «عزيزتي! كم من مرة قرأتِ فيها تعبير (كاتب حر) ولم تقرئي بعدها كلمة (مفلس)؟» أظن أن هذا يلخص حياتي كلها.
صممت طوال حياتي القصيرة أن أكون كاتبا حرا، متحملا مثل هذه الأشياء، وتفرغت لاستخدام خيالي الخصب، الذي ساعدني لأن أكون كاتبا، في أسئلة منطقية على غرار «لِمَ لا أعرف (هاكر) جيد يمكنه إضافة بعض الأصفار الطويلة بعد رقم متواضع في حسابي البنكي؟»، أو «لِمَ لا ينتجوا ماكينة في الشارع، تضع فيها رأسك، لينزل منها بنكنوت؟»، أو «كيف يمكنني صناعة مكان للبنكنوت في قبو المنزل؟»، ناهيك عن الملايين من أحلام اليقظة عن كيفية استخدام هذه الثروة الفاحشة في كل شيء ما عدا ابتياع الكتب طبعا، لم أفكر في جائزة نوبل، التي صمم أورهان باموق ألا يفصح فيم سينفقها، لأن الحقيقة المرة، أن الجائزة بحالها ومحتالها لا تستطيع أن تبتاع لك شقة فخمة، مما يبتاعها أشقاؤنا العرب بجزيرة الزمالك الحبيبة، هذا بفرض أنني قد حصلت على الجائزة من أصله.
بالطبع يمكنني أن أقف وأهلل في منتصف صالة بيتنا (لا في الشارع كما أتمنى) لأصرخ بعلو صوتي: «وما فائدة البنكنوت؟»، وسيكون هذا إضافة عظيمة لصورة الفنان البوهيمي الرافض لقيم المجتمع ورأسمالية المشاعر، بالفعل كنت أود أن أفعل ذلك، لولا أنني أتفهم كيف كانت النقود مهمة حتى في الحب. في هذا الوطن العظيم الذي لا يمكن أن تستضيف فيه حبيبتك في منزلك في الغالب، لتستمتعا بالشاي والقهوة المجانيتين، سوف تضطر للجلوس في مقهى ما. وحيث إن المقاهي البسيطة، فيما عدا وسط البلد الحبيبة، غير معتادة على الزبائن من الجنس اللطيف، فسوف تضطر للجلوس في أماكن تحمل أسماء أجنبية رقيعة تقدم لك كابوتشينو أغلى وأسوأ من الكابوتشينو الإيطالي، أو أماكن أكثر تواضعا، ولكنها تصر على «المينيمام تشارج» وأهمية وضع المياه المعدنية في الفاتورة، أو يمكنك أخذ الموضوع من قصيره لتجلسا على شاطئ كورنيش النيل مستمتعين بنسمات جميلة وبعديد من باعة الورد والشاي والمتسولين اللزجين، ومراقبين من بشر أكثر لزوجة، ولا يمكنك على العموم الالتزام بهذا الحل طوال الوقت. أنا لم أتكلم عن الزواج بعد يا عزيزي، ولا داعي لتذكيري بالشقراء الجميلة، أو بحماة متربصة تصرخ بنبرة نعرفها جميعا «ح توكلها حب؟!».
وعندما كنت أتضايق أحيانا، كنت أذكر نفسي بقصص ماركيز وكورتاثر عندما كانت تضربهم الفاقة في باريس، أو عندما قطع سكوت فيتزجيرالد علاقته بوكيله الأدبي غاضبًا عندما رفض أن يقرضه مجددا ليصرف على حياته الباذخة، وأن ديستيوفسكي قد كتب الجريمة والعقاب والأبله في وقت واحد لتسديد الديون، أو أعزى نفسي بأنني لم أكن تفصيلة في رحلة عوز باريسية أصيلة كتبها هيمنجواي تحت اسم «وليمة متنقلة»، أو كما في مشهد بديع في حلقات تلفزيونية بديعة عن رواية أبدع، «any human heart»، يأخذ ماونتستيوارت، المؤلف صاحب الكتاب الواحد العظيم، تاكسي بعد وداع صديقه الكاتب الذي هو أسعد منه حظا، ليترجل منه فور الانعطاف في شارع مجاور.
هكذا لم أترك مثل هذه الشكليات تفسد حياتي الإبداعية، وكتبت أربع من الروايات وثلاثة من مجموعات القصص القصيرة، ويمكنني أن أذكر لك أسماءها ببهجة شديدة، ثم ما قاله عنها النقاد من أول المغرب حتى الإمارات بفخار، إلى أن يقطع استرسالي المقدس «واحدة إسكندراني»، لا شك أن سيادتك ستتحفني بها.
وإذا ما ظننت أخي الكريم أن مثل هذه الأوضاع مسئوليتي الشخصية، وأن العالم ليس ملجأ خيريا، وأنني استحق مصيري تماما وجدا، وأن هناك الكثير من الحلول التي يمكن للمرء أن يتخذها لتوفير متطلباته، إذا ما ظننت ذلك، ودعمت المنهج الليبرالي المتوحش الذي يمشي فيه الفيلد مارشال الذي تحبه من داخل نياط قلبك ومناطق أخرى، وقررت أنا أن أتفق معك مؤقتا، وأؤيد دعواك ضد الأرذال والكسالى والمتنطعين، فهل يمكنك أن تخبرني ما هي منطقية صندوق يدعى «تحيا مصر؟!».