جهود الدولة المتلاحقة لوقف العشوائية، والتصدى للمخالفات كشفت عن عدد من الملاحظات الأساسية التى تتصل بالإدارة العامة التى تتطلب فهما عميقا لها، إذا أرادنا بحق أن نغلق هذا الملف البغيض، ونبدأ صفحة جديدة فى تخطيط المجتمع المصرى.
الأمر الأول الدولة تستطيع أن تفرض هيبتها بالقانون إذا أرادت، وجانب من المخالفات التى ارتكبت على مدى عقود لم تكن نتيجة ضعف الدولة بقدر ما تعود إلى غياب الإرادة، وعدم الرغبة فى بسط سلطان القانون، وفرض النظام، والأخطر هو وجود شرائح من المستفيدين فى دوائر الإدارة العليا أو السياسة، بل وأصبحت فى بعض الأحيان القدرة على تمرير الخطأ عنوانا لشعبية البعض، ودلالة على قدرتهم على الفعل.
الأمر الثانى أن الفساد تحول فى حالات كثيرة إلى أسلوب حياة أكثر منه مرض عارض، ليس فقط فى المحليات التى عادة ما توصم بالفساد، ولكن أيضا لدى غيرها من المؤسسات الأخرى التى لها احتكاك وتواصل مع الجمهور.
ويعرف المواطن أنه يشارك فى الفساد، وهو الأمر الثالث، يلجأ إليه لأنه مريح بالنسبة له، وإن كان مكلفا، يحصل على ما يريد، ويتحول الموظف إلى وسيط لأداء الإجراء الفاسد مقابل ما يحصل عليه لتعويض ضعف راتبه. وكيف يمكن أن يكون من سلطة موظف راتبه الشهرى يعد بالمئات أن يمنح تراخيص لمشروعات أو منشآت بالملايين؟
وأخيرا فإن كلا الموظف والمواطن يستفيدان من التشريعات واللوائح المتداخلة والمعقدة، والتى تعطى سلطة تقديرية واسعة لجهة الإدارة، وهو ما يفتح الباب على الفساد.
أظن أن الجهات الرقابية، وبالأخص الرقابة الإدارية لها دور مهم فى وقف الفساد، والتنبيه إلى مواطن الخلل، ولكن المسألة تحتاج إلى نظرة أكثر اتساعا، تتطلب أولا وضع لوائح منظمة للعمل ميسرة وواضحة، ووأد الأخطاء فى مهدها، وعدم السماح بتكرارها، وتوفير مخططات عمرانية تسمح باستيعاب زيادة السكان، وتوفير الخدمات لها، والاتجاه إلى ميكنة الإجراءات ــ رقميا ــ لتقليص تدخل الموظفين، وضمان خلو سير العمل من المخالفات، وإقرار «حياد الخدمة المدنية» بالمعنى الحقيقى المطبق فى دول أخرى مثل بريطانيا، والتى تمنع اتصال السياسيين بالجهاز الإدارى أو الحصول على مزايا منه، أيا كانت صورتها وشكلها.