لولا ما جرى من كورونا لكان لـ«مستر نون» شأن آخر فى أدبنا العربى المعاصر، و«مستر نون» هو بطل رواية تحمل نفس الاسم صدرت العام الماضى عن دار الآداب للكاتبة اللبنانية نجوى بركات.
وقد باشرت قراءتها للمرة الأولى عقب صدورها مباشرة، وظلت أسئلتها فى رأسى بلا إجابات لأنها مثل كل الأعمال الاستثنائية لا تعطى نفسها بسهولة وتحتاج لأكثر من قراءة لكى يتمكن القارئ من النفاد إلى عوالمها وتفادى ما تتركه فى روحه من جروح.
وبعدما جرى فى بيروت عدت إلى الرواية من جديد ووجدت فيها ما يفسر تجذر نزعة الخراب وما يمكن أن نراه من شغف هذه المدينة بالفقد المتواصل.
لا يختلف «مستر نون» عن مدينته فهو ضحية الفقد والخوف من غياب الأمان، ويحيل الرصيد الدلالى لحرف نون فى العنوان إلى أرشيف من العلامات النصية التى تأخذ القارئ إلى مجاز المرويات الدينية عن قصة النبى يونس مع الحوت.
وعلى الرغم من خروج الرواية من سباق الجوائز العربية دون أن تحظى بواحدة منها إلا أن جدارتها عندى ليست محل شك، وبطلها راسخ بما عاشه من أزمات ونكبات قادته لمصير بائس وهو النموذج المثالى للبطل اللا منتمى الذى يعيش حياته مؤرقا بأسئلة الوجود والعدم، يتخذ مسافة من عالمه المحيط ولا ينجو من آثام هذا العالم، فالمسافة وحدها لا تضمن الأمان، بل على العكس تورطه أكثر مع ذاته المنقسمة.
يقدم «مستر نون» نفسه للقارئ برشوة الضعف، ابن الطبيب المختل وثريا القاسية كخشبة ويقول: لم تردنى أمى، فعشت خارجها، اخترعت لى مكانا آخر، وصارت روحى شرفة معلقة فى الهواء، تنتمى إلى البيت ولا تحيا فيه
ولعل الشرفة هى المجاز الأكثر هيمنة على فضاء الرواية فالبطل يفضل الحياة على الحافة فلا هو فى الداخل تماما ولا هو فى الخارج أيضا، فمكانه المختار هو تعبير عن هذا الانقسام بين عالمين.
وبسبب قسوة الأم عاش طفلها فى الزوايا وشهد انتحار أبيه الطبيب الذى هزمه موت الأطفال خلال سنوات الحرب فقرر التخلص من مأزقه بالانتحار بجرعة مخدرة أمام طفله الذى ترسخ فى وعيه أن الأب تخلص من العيش مع أمه القاسية فقضى الابن سنواته كلها مذعورا من حضورها ومن اسم لقمان الذى كان آخر اسم نطق به الأب قبل الانتحار وهو أمير الحرب الذى تسبب فى موت هؤلاء.
عاش مستر نون بقية حياته نزيلا فى مصحة علاجية يتعاطى المهدئات متوهما أن لديه موهبة الكتابة ونتابع قلقه من اختفاء أوراقه التى تشكل نواة للمخطوط الروائى يتشكل أمامنا بتقنية سردية مشوقة أقرب لفحص جنائى تكشف الكاتبة فيه عن نزعات أبطالها الذين شكلوا خراب النفوس فى عالم ما بعد الحرب، لنكتشف فى النهاية أن مستر نون نفسه شخصية فى رواية لكاتبة انتحرت بعد أن أكملت روايتها.
يحتار القارئ فى الحكم على البطل وأفعاله فهو تارة يقدم نفسه كضحية محتملة، أو كمراقب محترف يحسن التدبير فخلال إقامته مع العائلة عانى من أشكال التمييز التى مارستها أمه ثريا لصالح الأخ الأكبر سائد الذى حظى بكل شىء ولم يكن أمامه سوى اللجوء لحضن مارى مديرة المنزل التى أدت دور الأم البديلة وهو دور يتعاظم طوال النص وتستلمه سيدة تلو الأخرى.
وعندما يغادر لعيش مغامراته فى قاع المدينة يصل المنطقة الأكثر فقرا فى بيروت وهى برج حمود التى تعد متحفا حيا لأولئك الذين وضعتهم المدينة على هامشها وظل مستر نون يأخذ نفسه إلى هناك متلذذا بخوفه من لقمان أو أرشيف مخاوفه الراسخة والهاجس الذى رافقه، لكنه ينجو من القتل بفضل شايعا الآسيوية التى تولت إنقاذه وآوته فى جحرها واستعاد معها أمانه المفقود، وكانت التعويض عن الفقد الذى عاشه طوال حياته
ومعها خطر له أن يتصالح من الكتابة ويستأنف كتابة نصه إلا أنه لم يتمكن من حمايتها من مستر جو الذى استردها وأعادها إلى عالمها.
تحفل الرواية فى مواضع كثيرة بخطابات الإدانة للواقع اليومى المعاش وتنمو فى أوراقها المرثيات وتنتقل بالقارئ من رثاء البشر لرثاء المدن وتندد بذهاب المدن العربية كلها إلى الخواء وترى احتفال سكانها بالهرب إلى الشاطئ الآخر حيث يبتلع الموت الهاربين من الحروب فى البحر غرقًا!
يتساءل مستر نون لماذا لم يصبح شجرة ؟، ويقول إن الكره أيضا يتنامى فى روحه كشجرة برية عملاقة تذهب جذورها وأغصانها فى كل اتجاه.