جرت العادةُ على أن يلتقيَ الناسُ فيتبادلوا السؤالَ عن الحال، ويرددوا الكلماتِ المألوفةِ دون أن يهتموا كثيرًا بأن تكون دقيقةً أو واصفةً لحقيقةِ ما يشعرون به، ففي غالب الأحيان كانت الأمور تمضي بما يمكن احتمالُه، ولإن تعقَّدت الظروفُ وَجد المَرءُ مَن يُخفف عنه ومَن يقول: رَوَّق بالك؛ فكثرة الهمُوم تقصفُ العمر. مرَّت لطائفُ الأيامِ وجاءت نواشفُها، وتحوَّل السؤالُ عن الأحوالِ إلى عبءٍ مُضاف، وباتت الإجابةُ المُعتادة بالحَمدِ والشُّكر قاصرةً عن التدليل على الواقع، حافلةً بنبراتِ الأسى، مَعجونة بالبؤس.
• • •
تشير قواميسُ اللغةُ العربية إلى مَعان مُتعددة للفعل رَوَّق؛ بتشديد الواو وفتحها. روَّق الماء أيّ صفَّاه وتركه خاليًا من الشوائب، وروَّق المرءُ بيتَه أيّ جعل له رواقًا، أما إذا روَّق بائع في سِلعته للشاري؛ كان القصد أنه رفعَ ثمنَها وغالى فيه، وإذا قيل روَّق الليلُ؛ كان المراد أنه مدَّ ستارَ ظلمته. الفاعلُ مُروِّق بكسر الواو وتشديدها، والمَفعول به مُروَّق بفتحها، أما المصدر فتروِيق.
• • •
أجاز مَجمَع اللغةُ العربية مُؤخرًا لفظةَ "ترويقة" لتدللَ على الطعامِ الذي يتناوله الواحد منا في الصباح؛ فيكون تغييرًا لطعمِ الرّيق، ورغم طرافة الكلمَة المُستخدَمة في عدَّة بلدان، ورغم استناد الإِجازةُ إلى حيثياتٍ مَنطقية مَقبولة؛ إلا أن بعضَ المُتواصلين مع المَجمَع قد اعترضُوا عليها، مُفضّلين كلمة "اصطباحة"؛ وهي تعبير مُستقى مِن المَوروث الدينيّ إذ كان الرسولُ يَصطبح أيّ؛ يبدأ صباحَه، بتناوُل التَّمر.
• • •
إذا أراد المرءُ أن ينفضَ بعضًا من همُومِه؛ روَّق على نفسِه، وصنع ما يُرفه به عن حاله، وما يجلبُ له بعضَ التسريةِ والانبساط. ارتبط التَّرويقُ على النفسِ عند كثير الناسِ بوجود الطعام؛ إذ هو مما يُبهج القلبَ ويُخفف الأحزانَ، ويجعلُ للحياة طعمًا دونه المَرار. رغم هذا، لم يعد اللجوءُ إلى مائدةٍ عامرةٍ أو حتى مُتواضِعة؛ في زُمرةِ المُمكنات المُيسَّرات، فقد تصاعدت الأسعار بصورةٍ فاحشةٍ، وتحوَّلت أرخصُ المحاصيلِ والمَزروعات إلى بضائع ثَمينة، وإذا كان البائعون يُضيفون فيما سبق بعضَ ثمارِ الليمون وربما البَصل لأيّ شروةٍ دون مقابل؛ فقد باتوا يعرضونها مثل كنوز يتعذَّر اقتناؤها.
• • •
عادة ما يقوم الواحد بترويق بَيته إذا توقَّع مَجيءَ ضُيوف، والقصد أن يُرتبَه ويُنظمَه ويُعيد الأغراضَ المُتناثرةَ هنا وهناك إلى أوضاعِها الطبيعية، وقد يُزيل أيضًا تلك الأتربةَ التي تفترش الأسطحَ ما إن تُفتَح النوافذُ وتُترَك على حالِها لدقائق، والحقُّ أن عمليةَ إزالة المَساحاتِ الخضراءِ وقطعِ الأشجار وزَرعِ الإسفلت، قد ساعدت على تراكمِ الغُبار خلال فتراتٍ قصيرة؛ حتى لتبدوَ المنازلُ خلال ساعات مِن تهويتها كما لو مرَّت عليها أسابيع دون تنظيف.
• • •
غنت شادية "سوق على مَهلك سوق بكرة الدنيا تروق" في فيلم بُشرةِ خير، من إخراج حسن رمزي وإنتاج عام ألف وتسعمائة واثنين وخمسين، وقد وضع اللحنَ منير مراد وكتبَ الكلماتِ خليل البنداري، وهي من أخفّ الأغنياتِ على الوجدانِ وأقربها إلى الأذن، وإذ يأتي المَقطع "على إيه بتجري كفاية علينا العمر بيجري من حوالينا"؛ فإنه يثير الشُّجون ويدفع إلى الصَّدر ببُخارٍ مَكتوم، فالكلُّ في هَرولةٍ ولهاث فيما لا تتحقَّق الفائدةُ المَرجوَّة؛ إذ الخطأ في اختيار الطريق، لا في الإسراع أو الإبطاء.
• • •
إذا حاول صاحبٌ أن يُخفّفَ عن صاحبه حالَ الكَرب التي وقع فيها قال له: روّق ودَعها لربِك، والقصد أن يُزيحَ المَكروبُ عن كاهلِه العبءَ، وأن يُلقيَه على من هو أقدر على إيجاد الحلّ وتذليلِ المصاعب. القولُ سهلٌ مُريح والتنفيذ صعبٌ عسير؛ لكن البحثَ عن الأسبابِ والعَمل على تغييرها، يُهوِّن المشقَّةَ ويبعثُ على الرضاء.
• • •
قد يقلب السياقُ المعنى رأسًا على عقب، فإن عزم واحد على "ترويق" آخر في موقف عراك، لكانت الكلمة نذيرًا بإيذاءٍ وشيك، ربما ينال فيه مِن الضَّربِ ما يُوجِع، وإذا صاح واحد في وجهِ غَريمِه بأنه سيروِّقَه؛ لكان عليه أن يستعد للعاقِبة إذ الترويقُ في هذه وتلك يُراد به الضدَّ، فمن صفاء إلى كدر، ومن استرخاء إلى توتُّر.
• • •
في فيلم "جحيم تحت الماء" المأخوذ عن قصة للكاتب الأمريكيّ ثورنتون وايلدر، والذي أخرجه نادر جلال عام تسعة وثمانين، أدى الفنان سمير صبري أغنيةً حظت بنصيبٍ وافر من النجاح مَطلعها "روَّق يا أبو علي". شاركت الفنانةُ ليلى علوي في بطولة الفيلمِ وتألقَ كعادته القدير عادل أدهم، ويُذكَر أن التصويرَ تحت المياه قد مثلَ حينها فاتحةً سينمائيةً تصدّى لها المُصَور المُتميز سعيد الشيمي.
• • •
بعض الأحيان يشعر المرءُ أن مزاجَه رائقٌ، وأن الحياةَ أبسط مما تبدو عليه؛ ليس فيها ما يستحقُّ النكدَ ولا ما يتطلَّب الانفعالَ الحاد، وفي أحيانٍ أخرى تبدو الأحداثُ العابرةُ ضخمةً مُخيفة؛ تستوقِف الخطوَ وتستجلبُ الغَمَّ وتعطلُ المَسير. أحكم الناسِ من يضعَ الأمورَ في نصابِها، فيعطي كلَّ مَوقفٍ حقَّه بلا زيادة ولا نقصان؛ لكن هذا التوازنَ نادر الوُجود، خاصة والخللُ قد أصاب مناحي الحياةِ قاطبة.