من المؤسف فعلا أن يموت ناقد ومفكر بقيمة إبراهيم فتحى دون أن يحصل على أى جائزة من جوائز الدولة التى تم منحها لكل من هب ودب وفى مراحل كثيرة ذهبت لمن هم أقل قيمة وأقل تأثيرا
والأغرب أنه فى الوقت الذى تسامحت فيه الدولة مع قامات يسارية بوزن وقيمة أنور عبدالملك ولطيفة الزيات ومحمود أمين العالم لم تفكر أبدا فى إبراهيم فتحى ولم تمد بصرها فى اتجاهه.
وبينما وصلت الجائزة لتلاميذه المقربين عن جدارة واستحقاق إلا أنها ظلت بعيدة عنه، حتى وهو فى لجان تحكيمها كان وجوده ضمن اللجان خيارا شخصيا ولم يكن تعبيرا عن (رضا متبادل) فقد عاش راضيا بلقب (ناقد الرصيف) الذى يقول كلمته ويمضى.
وفى حالاته كلها احتفظ بعقل نقدى متوهج، وقدرة استثنائية على السخرية، والتواصل مع الأجيال بروح معلم حقيقى، متواضع وعذب وخلاق.
عرفته فى أوائل التسعينيات وهو لا يزال بكامل قدرته على النقاش والمناكفة وكانت جلساته الأسبوعية على مقهى زهرة البستان أو ركنه المختار فى أتيليه القاهرة أقرب ما تكون إلى أكاديمية مفتوحة للحوار الذى يتيح لمن يحضر أن يخرج بحزمة من المعارف المتنوعة.
ومازلت أذكر المرة الأولى التى استجمعت فيها شجاعتى وتحدثت معه وكنت لا أزال طالبا واعترفت له بأننى لم أفهم حرف من ترجمته لكتاب (المنطق الجدلى) لهنرى لوفيفر فرد ببساطة: «ولا أنا» وظننت أنه يسخر منى إلى إن اقترب من مقعدى عند نهاية الجلسة وقال تعالى نتقابل بكرة، وأشرح لك ما تحتاج لمعرفته، وهو ما حدث فعلا لكن الأهم أنه قال لى إن الترجمة صعبة فعلا ولا يمكن فهمها لأن ناشرها من باب التوفير حذف الهوامش الشارحة التى كان بإمكانها أن تساعد شاب مثلى على استيعاب الكتاب.
وعندما علم أننى أدرس التاريخ أهدانى فى الجلسة التالية ترجمته لكتاب آخر هو (المعرفة التاريخية) لبول فين وكان كتابا سهل الفهم ومن أكثر الكتب أهمية لأنه كشف عن الثورة التى أحدثها ميشيل فوكو فى مناهج الكتابة التاريخية.
وعلى سبيل المشاغبة مع الأستاذ بقيت طوال ربع قرن كلما قابلته أقول (مش فاهم لوفيفر يا أستاذ وكان يضحك ويقول تعالى افهمك).
وعبر مشواره الممتد لم يكن يفاخر بماضيه النضالى الفذ أو دوره التأسيسى فى تنظيم وحدة الشيوعيين الذى تعرض أغلب المنتمين له لحبسه محترمة بين أكتوبر ١٩٦٦ ومارس ١٩٦٧ ولولا إصرار جان بول سارتر على الإفراج عنهم قبل زيارته لمصر لظلوا فى السجن لزمن أطول.
وقد تعجب عزيزى القارئ إذا علمت أن أعضاء هذا التنظيم أصبحوا من ثروات مصر ومن رموزها الذين فاخرت بهم بعد ذلك أمثال صلاح عيسى وجمال الغيطانى وسيد حجاب وعبد الرحمن الأبنودى وخليل كلفت إلى جانب صبرى حافظ ومحمد عبدالرسول أمد الله فى عمريهما.
وبقى إبراهيم فتحى ضيفا على المعتقلات حتى العام ١٩٨٩؛ حيث حل ضيفا على السجن من جديد فى الحبسة المعروفة باسم قضية الحديد والصلب التى ضمت معه آخرين أبرزهم الراحل د.محمد السيد سعيد.
ولا يعرف البعض أن اليسار العربى تمكن من توصيف النظام الناصرى وسياساته الاجتماعية بفضل مساهمة نظرية كتبها الراحل باسمه التنظيمى (الرفيق مرسى) عام ١٩٧١ أوضح فيها أن النظام الناصرى ليس إلا تعبير سلطوى عن (رأسمالية دولة)، وأن الطبقة التى تحكم هى (البرجوازية البيروقراطية)، وبفضل هذا التحليل الملهم تطورت أفكار الحركة الطلابية التى نشطت حول هذه الفكرة أوائل السبعينيات وفى هذا المناخ تبلورت مساهمات أخرى أبرزها ما كتبه الثنائى عادل رفعت وبهجت النادى باسم (محمود حسين) حول الصراع الطبقى فى مصر ولا تزال كتابات إبراهيم فتحى النظرية بحاجة لمن يجمعها لأنها تمثل إضافة كبيرة للفكر السياسى العربى عند قراءتها داخل سياقها التاريخى.
ولعل الدرس الأهم فى مسيرة الراحل أنه بقى طليعيا بالمعنى الذى مكنه دائما من ملاحقة تيارات التجديد والارتباط بها، عبر جميع أشكال النقد والحوار فهو لم يكن (مأضويا) أبدا، فالطليعية كما فهمها هى خطوة للأمام وليست إلى الخلف ولذلك تخلص من كلاشيهات كثيرة أصابت النقد العربى وتمكن فى لحظة فارقة من ان يساهم فى تأسيس منابر مثل مجلة (جاليرى ٦٨) أو جماعة كتاب الغد وفى التجربتين خاصم الواقعية الاشتراكية على الطريقة المدرسية أو الجدانوفية وبشر بالنبرة الجديدة لذلك بقيت تجاربه كلها على صلة بالمستقبل وهذا سر من أسرار كثيرة ذهبت معه.