بين الحينِ والآخر تُعلِن وسائلُ الإعلام عن مُختَلٍّ قامَ بفعلٍ جذب الأنظار، وأدهش الناسَ أو أفزعهم. جرت العادةُ بأن يُساء استخدامُ الكلمة ويُعاد توجيهُها؛ بما يجعل الوصمَة التي تطال مَن خَفَّت ركائزُ عقولِهم لعلَّة من العِلل، تنال في الوقت ذاته مِن عاقلين؛ حادوا عن مَسارات المُجتمع الجامدة، واخترقوا المَحظور. يُصدِر الناسُ أحكامًا مُسبَقة بشأن المَوصومين؛ لا يهتمون بمعرفة الأسباب، ولا ينتظرون اتضاحَ التفاصيل، واستبيان ما خفيَ مِن دواعي الاختلال. مَررت بكثير "المُختلِّين" مِمَن يتمتعون بنظرةٍ ثاقبةٍ مُتزنة ورأيٍ سديد؛ لم تكُن رجاحةُ العقل لشديد الأسف عونًا لهم على احتمالِ سوءِ العَيش، ولا كانت البصيرةُ حمايةً مِن عتمَة المصير.
***
ثمَّة أشخاصٌ يأبون الاندماجَ في أجواءٍ تَزكُم بعطنِها الأنوفَ، يحاولون تطهيرها مِن الغثاءِ فينتفض مُريدوه، ومع كُل واقعة كاشفة؛ تفضح بُؤسَ الصورة، يظهر اختلالُ العقل كدافعٍ لا يجوز رَدَّه؛ فيغدو إجابةً لسؤالِ المُشاهدين، وأداةً لإرضاءِ المُرتابين وإطفاءِ شكوكهم. الأفعالُ المُربكة لا حدَّ لها ولا دليل لمنعها، والعقلُ المُختلُّ مُبرِّرٌ كافٍ عند أغلب الناس؛ يُخفِّف مِن دهشتهم إزاء أية واقِعة، ويُسوغ ما جرى وما قد يجري مُستقبلًا، بل ويضعه في إطار القدر المَحتوم.
***
اختلالُ الشيء في مَعاجم الُّلغة العربية يُشير إلى عُطبٍ شابه، بينما المُفردةُ في قديم القواميس تعني اتخاذَ الخَلَّ مِن عصير العنب والتمر. خَلَلُ الفعلِ هو فساده وقِلَّة إحكامه، والأمرُ المُختَلُّ هو الأمر الواهن، أما مَوطِن الخَلَل؛ فهو مَحلُّ الاضطراب والضَعف. إذا وُصِف الثوبُ بأنه خَلٌّ؛ فالمعنى أنه بالٍ مُهلهَل، وإذا قيل عن شخص إن جسدَه مُختلٌ؛ فالقصد أنه نحيفٌ هَزيل. أخلَّ بالشيء أي أجحفه حقَّه ولم يستوفِه، وأخلَّ بمركزِه أي غاب عنه وتركَه، وقديمًا كان يُقال إن الوالي ”أخَلَّ بالثغور“؛ إذا خَفضَ عددَ الجُند بها وعرَّضها لبطشِ الأعداء.
***
بعضُ المرات يكُون الاختلالُ حِسيًا ملموسًا، وفي مراتٍ أخرى يكون معنويًا؛ لا يشعر به أحدٌ، ولا يراه رؤيَ العين سوى مَن يُعانيه. تختلُّ عضلةُ القلب ويضطرب عملها، تمامًا مثلما تختلُّ المشاعرُ وتختلط على أصحابها؛ كلاهما مُوجع في ذاته مُخيف، والحال أنهما قد لا ينفصلان؛ إذ يغذي أحدهما الآخرَ ويُفاقمه. يقول الشاعر العباسيّ القديم: لا يهُن عندك اختلالٌ بجسمي .. فقوامُ الأرواحِ بالأجسامِ. كذلك يصلح مَعنى البيت إن انعكست الأدوار ويستقيم؛ فالصِلةُ القائمةُ بين الجَسد والروح، لا تقتصر على اتجاه واحد.
***
حديثُ البيئة والطَّقس وما اعتراهما مِن تغيُّر مَلحوظ، وتبدُّل، فاختلال عميق؛ يحتلُّ موقعًا رئيسًا مِن وسائل الإعلام الأجنبية، بينما يظهر على استحياءٍ في المنطقة العربية، ويكاد يغيب عن كثير الساحات. أشاهد يوميًا في الذهاب والإياب؛ اقتلاعَ الأشجار وغرسَ الخرسانات، ودكَّ الحدائق لصالح جسور وشوارع إسفلتية؛ لا تخلو ضفافُها مِن أكوام النفايات. يتباكى المَسئولون صباحًا على احتضار الأخضر، ويضربون معاولهم مساءً لدفنِ ما تبقى منه.
***
إذا طاردت النعامةُ أسدًا؛ كان صنيعها علامةٍ على اختلالِ المَوازين، كذلك إذا صعد مَن لا يستحقُّ الدَرَجَ، وتربَّع على عَرشٍ من العروش، وهانَ مَن يفوقونه قيمةً ومَكانة. المَوازين التي يُصيبها الخلل هاهنا؛ تعطُّل عدالة التقييم وتقلب الأحوال رأسًا على عَقب، فلا يعود المرءُ على ثقة مِن أمره أو من أمر غيره.
***
يسير لاعبُ الأكروبات على حبلٍ رفيع، يُمسك بمُنتصف العصا المُمتدة تحاشيًا للسقوط، فإذا اختلَّ توازنُها بين يديه، ولم يكُن في مُتناوله بديل؛ سقط مِن علٍ. بعضُ الأشخاص يتراقصون على الحبالِ؛ لا عصا في حوزتِهم ولا هم يهتمون بحفظ توازنِهم، قد يواصلون لعبتَهم ردحًا مِن الزمان؛ لكن خسارتَها قاضيةٌ وأكيدة.
***
الاختلالُ حَدَثٌ ذاتيّ، أما الإِخلالُ ففعلٌ إراديّ؛ فإذا أخلَّ الفردُ بنظامٍ ما، عُوقب مِن قِبل واضعيه. بات الإخلالُ بالأمنِ العام تهُمة جاهزةً مَصكوكة؛ لا يدري أحدٌ كنهَها ولا يُدرك سبيلَ اتقائِها. الأمنُ حال مَرغوبة ولا شكّ؛ لكن مُتعلقاتها غائمة، وضوابطَها قابلةٌ للتمدُّد والثني والتطويع؛ ما قد يراه واحدٌ إخلالًا بمُقتضيات الأمن الواجبة، يجده الآخر حقًا طبيعيًا مشروعًا.
***
يقول المثلُ الشعبيّ: "خُدْ مِنِ التَّل يِخْتَل"، والمعنى أن التبذيرَ وسفه الإنفاق قادران على تَبديد الثرواتِ مَهما تضاعفت وبَلغ حجمُها، والحقُّ أن التلَّ القائمَ في الجوار قد أصابه الاختلالُ مِن كثرة ما فقد، وصار مشرفًا على الاختفاء؛ فما يُؤخذ منه لا يُرد، وما يُنتقص لا يتم تعويضُه.
***
إذا اختلَّ المَقودُ في يدِّ مَن يُمسِك به، اعوَجَّ المسارُ وبات الاصطدامُ وشيكًا، وإذا اختلَّت الرؤيا وغامَت، وتَضَبَّب الإدراكُ، وأفسد القدرةَ على استجلاء الآتي؛ توجَّب البحثُ عن بدائل.