منذ عدة سنوات جمعنى حوار مع أحد الشخصيات الفاعلة فى الوسط المسيحى غير الأرثوذوكسى، وكان متحمسا للزواج المدنى، وأخذ يعدد الأسباب، ويشير إلى وقائع تاريخية تعزز كلامه، وعندما فرغ من حديثه سألته: هل تقبل ان تزوج ابنتك مدنيا خارج الكنيسة؟ صمت قليلا، ثم قال: ولم لا؟ فأعدت عليه السؤال بصيغة أخرى: هل تقبل ابنتك وزوجتك وعائلتك زواجا لأحد أعضاء العائلة دون مراسم دينية بالكنيسة؟ أجاب بالنفى.
المسألة فى رأيى ليست فى جواز الفعل دينيا من عدمه، ولكن فى نوعية المزاج الدينى السائد، والذى يعنى ببساطة طريقة حياة الناس، وتصوراتهم الدينية، ونظرتهم لأنفسهم.
منذ أيام عقد قرآن فى تونس على يد مأذونة، وكان الشاهدان أيضا من النساء، هما والدتا العريس والعروس، وقد آثار ذلك جدلا فى المجتمع التونسى بين مؤيد ومعارض، حسب نظرة كلا الفريقين للشريعة الاسلامية. تبادر إلى ذهنى سؤال: هل يقبل المجتمع المصرى ذلك؟ هل تقبل الأسرة ان يكون الشهود على زيجات أبنائها وبناتها من النساء، وبصرف النظر عن مدى اتفاق أو تناقض ذلك مع الدين، فالمزاج الدينى لا يقبل ذلك حتى فى أكثر الأوساط الاجتماعية تحررا.
هذه إشكالية تغيير الخطاب الدينى أو تحديث الممارسات الدينية، التى لا تطول ثوابت العقيدة، بل تتعلق بممارسة التدين ذاته. فالناس تشكل لديهم مزاج دينى من روافد عديدة، وتكونت لديهم تصورات، يصعب تغييرها إلا عبر عملية طويلة من النقد والجدل والحوار.
بالطبع قد نجد فى كل مجتمع من هو على استعداد أن يسبح ضد التيار السائد، ويظهر مختلفا، ولكنهم فى النهاية أقلية، لا يمثلون مجموعا شعبيا لهم تصورات دينية مغايرة.
وفى المقابل فإن الغيورين على الدين، ويرتدون رداء المحافظة، قد يعلنون تمسكهم بالثوابت، لكن بعضهم يناقضها حين تتعارض مع مصالحه، ويبرر رفض الانصياع لها بمبررات اجتماعية وليست دينية. المثال الواضح على ذلك حرمان بعض الأسر النساء من الميراث فى مخالفة صريحة لثوابت الدين.
وتتجلى هيمنة المزاج الدينى فى مجتمعات أخرى لأسباب سياسية وليست دينية. فى إيران تثور اكثر من أربعين مليون امرأة على القيود التى تفرضها شرطة الأخلاق على زى المرأة، ولم تهدأ المظاهرات التى تشارك فيها كل فئات المجتمع منذ مقتل الفتاة الكردية الإيرانية مهسا أمينى فى منتصف شهر سبتمبر الماضى، بعدما اقتديت إلى أحد مراكز الشرطة نظرا لأن حجابها لم يكن مطابقا لمواصفات شرطة الأخلاق. وتواجه المرأة الأفغانية سلطة طالبان بالمظاهرات حتى لا تفقد حقوقا فى التعليم والعمل والتمثيل السياسى حصلت عليها فى العشرين سنة الماضية، خاصة بعد أن كشفت طالبان عن وجهها القديم بالتضييق على المرأة فى العمل، والفصل بين الجنسين فى الدراسة، ومنع النساء من الذهاب إلى الحدائق والمتنزهات دون محرم، بل وتغيير اسم وزارة شئون المرأة إلى وزارة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فى دلالة لا تخفى على أحد. يحدث ذلك الآن فى أفغانستان بينما تولت المرأة منذ عقود رئاسة الحكومة فى دول غالبية سكانها من المسلمين.
ما أريد قوله إن فى حياة الناس أمزجة دينية، ليست بالضرورة متفقة مع أحكام وثوابت الدين، أو التفسيرات الرحبة للدين، لكنها متسقة مع تصوراتهم. هذه الأمزجة قد تكون تلقائية شعبية، أو تصورات لجماعة دينية تهيمن بها على أعضائها، أو قد تفرضها السلطة فرضا لخدمة أهداف سياسية كما فى إيران وافغانستان، ويظل السؤال هو: سياسة أم دين؟