أحلام مَنظُورة - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 12:19 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

أحلام مَنظُورة

نشر فى : السبت 15 ديسمبر 2018 - 12:10 ص | آخر تحديث : السبت 15 ديسمبر 2018 - 12:10 ص

كانت السماءُ رائقةً، وشمسُ الشتاءِ حاضرةً، ومَواكبُ البشر المُتدفقة لا تهدأ، ولا يخلو منها ميدان؛ ما بين مُتجهٍ إلى عملِه، وقاصدٍ جامعتَه، وجائلٍ يقضى نهاره مُتأملًا فى جمالِ الحياة.

وصلت قبل موعدها بفترةٍ طويلة؛ عادة لم تغيرها الظروف على مَرّ السنين، ولا أخلت بها يومًا العقبات. لم يكُن الزحامُ ليعوقها عن الالتزام بمواعيدها، ولا سمحت بأن يعرقلها حدث مهما كان؛ تفى دومًا بكلمتها، وتتحرى الدقة، وتصل بلا أعذار فى الزمان والمكان مَحلَّ الاتفاق.
***
لا تجد معظم الأحيان غضاضة فى الانتظار؛ ففى الاختلاء بالنفس راحة، وفى الوحدة المؤقتة والعزلة براح. لا تمانع أن تتأخر زميلتها قليلا ولا تغضب، مع ذلك فإن وجودها وسط الناس؛ الذين يرمقونها كالعادة خلسة، ويتسللون إلى فضائها الخاص عنوة؛ يقطع عليها الشرود اللذيذ، ويقوض مساحاتِ الاندماج، ويُنغّص المزاج.

راحت الدقائقُ تمر بَطيئة، وتتجمَّع فى تؤدة لتغدو ساعة؛ ثم اثنتين ولم تحضر بعد الصديقة، فيما البرودة التى تغلف الهواء تتزايد وتشتد، وتخترق الأقمشة الثقيلة إلى العظام، ومعها نظرات لزجة تطوف فى الفراغ، تعلق بين الفينة والفينة بشيء هنا أو هناك، وتحطُّ فى جوالتها على مَنظورة؛ الجالسة على مقعدها بلا حيلة أو دفاع.
***
اعتادت مَنظورة أن تكون حياتُها مَنظورةً، خاضعةً لألوان مِن المراقبة اللصيقة والمتابعة الدئوبة، ولتعليقات لا نهاية لها؛ يفضى بها الناس حول ملابسها وشعرها، وحذاءها ووجهها، زينتها وحقيبتها وقرطها، وكل ما طالته الألسنة ورصدته متعمدة، ولاكته جيئة وذهابًا؛ بلا وازع ولا حياء.

فردت الجريدة، واتخذت منها ساترًا يقيها ما ظهر وما تخفى مِن ملاحقات تعيسة، ولم تلبث أن انخرطت فى القراءة؛ إذ جذبها خبر طريف عن موظفى الشركة العملاقة، الذين رفضوا المشاركة فى إطلاق نسخة من نظامهم الإلكتروني؛ تسمح بمراقبة مستخدميها.
***

مائتا موظف من المؤسسة المهولة «جوجل«؛ بعثوا لإدارتهم برسالة مفتوحة، يحثونها على إلغاء مشروع ضمن مشروعاتها الكبيرة: «دراجون فلاي« الذى يطوع أساليب التكنولوجيا الحديثة وأدواتها، ليجعل محرك البحث الشهير مستأنسًا فى بلاد الصين، خاضعًا لرقابة السلطة، والأجهزة الخبيثة؛ حيث السيطرة على المواطنين مطلوبة، وحيث لا تفلت من براثن الحاكمين ذبابة. لم يكُن الموظفون وحدهم المعترضين، بل طالبت منظمة العفو الدولية من قبلهم، بوقف المشروع وحذفه من جدول التنفيذ؛ إذ سيصنع مِن جوجل طرفًا مُتواطئًا على اضطهاد المَقهورين، وقمع المُستضعَفين، حين ييسر جمع بياناتهم الشخصية، وتتبع أفعالهم ومسالكهم واختياراتهم الذاتية، بل والعمل على إعادة توجيهها.
***
فكرت لوهلة فى نفسها، وفى أُخريات مثلها، تعانين رقابة محكمة، إنما من نوع مختلف وغريب؛ رقابة تجعلها دائمًا مُستهدفة، لا يهم كثيرًا ما تبحث عنه على الشبكة أو فى غيرها، كما لا تهم على الإطلاق بياناتها؛ فكيانها بأكمله مُستباح على مر سنوات العمر؛ كأنه ملك للآخرين لا ملكها، مُحاط بخطوط حمراء مُتوهجة، وعليه ختم الوصاية العتيد، أما السلطة؛ فحاضرة فى وجوه وصور مُتباينة، لا تحتاج إلى مُحركِ بحثٍ خاص، ولا تنقصها أدوات للتقصى والسيطرة. كلُّ ماشٍ فى الشارع رقيبٌ، كلُّ عين فضولية، وكلُّ حنجرة مُتحفّزة للبثّ، مُتأهبة للانطلاق.
***
تمنَّت مَنظورة لو وقَّع هؤلاء الموظفون بيانًا آخر لمُساندتها، يدافع عنها بحميَّة حقيقية وحماسة كبيرة ونقيَّة؛ بيانٌ يرفضون فيه ما تتعرض له مِن مهانة، وما تعانيه مِن سخف وسماجة، ويطلبون لها ما تفتقد من مفردات الخصوصية، وما ينقصها من أمارات الاستقلالية، وما تتوق له من اعتراف أصيل بكامل الأهلية.

فى أحلامها لم يعلُ سقفُ مَنظورة، عن يوم تقضيه حرة طليقة؛ معفية من كلمات تطاردها، وغمزات ولمسات تباغتها؛ يوم بلا أعين تترصدها فى سكونها وشرودها وحركتها؛ لكن هذه الأحلام أبدًا لم تتجاوز حدودها، ولم تصبح ولو على سبيل الاستثناء حقيقة. أحلام منظورة.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات