رفضَ الرَّجلُ أن يشهدَ بما وقع رغم حضورِه وأعلن أن الموقفَ لا يخصُّه. قفز أحد الخَصمين مُغتاظًا، مُدركًا أن ثمّة ما يُحاك، وأن كتمَ الحقائق الدامغة وحجبَ الوقائع التى تنصفه على هذا المنوال؛ إنما يعكسان اتفاقًا ضمنيًا انعقد بين الشاهد والآخر المُدان، وأن نتيجةَ المواجَهة لن تكون على الأغلبِ عادلة. صاح وسط الحجرَة التى ضمَّت الجَمعَ راميًا دون تحفُّظ بالاتهام: حضرتك مُوالِس معاه.
• • •
كثيرًا ما نقول عن شخصٍ ما إنه مُوالِس؛ قاصدين أنه متواطئٌ وصامتٌ عما لا يجب الصَّمتُ تجاهه. يكون التواطؤُ فى العادة على أمر سيّئ مؤذٍ وربما غير أخلاقى أو غير قانونى، فقد يُوالِس المَرءُ على فسادٍ يراه؛ يغضُّ النَّظرَ عنه ويتجاهل كشفَه، ويصبح بالتالى جزءًا سلبيًا منه، وتكون مُوالستُه هذه إما خوفًا من عواقب الجهر والإفصاح واتقاءً لاحتمالات التنكيل، أو حفاظًا على موقعه الذى يستلزم الحيطة وعدم التدخُّل فيما لا يعنيه، أو طمعًا فى مكاسب أعظم تنتظر المخلصين الموالين، وربما يكون المُوالِس من الجرأة بمكان؛ فيطلبُ المُقابلَ ويغدو بطبيعةِ الحالِ شريكًا أصيلًا فاعلًا.
• • •
يأتى الفعلُ وَالَسَ فى قواميس اللغة العربية حاملًا معانى مُتقاربة؛ يدور أغلبها فى فلك الخداع والمُداهَنة. الفاعلُ مُوالِس بكسر اللام والمَفعولُ به مُوالَسٌ بفتحها، أما المصدر فهو المُوَالسة. الكلمةُ مُستخدَمة بوفرة فى أحاديثنا اليومية وخاصةً تلك التى تتضمَّن أجواءً من التآمر والتدبير؛ أما المُشتقَّات فقليلة وشحيحة التداول.
• • •
إذا وَلَسَ الواحد صاحبَه أو وَالسَه كان المعنى أنه خانه، وإذا وَالَسَ معه فقد عاونه على الخيانة، والخيانةُ بطبعِها فعلٌ كريهٌ، يُوصَم مُرتكِبُه بنقائصَ عَديدة؛ فهو ناقضٌ للعهد، مُهدِرٌ للأمانة، لا يَحفظ حقًا ولا يَرعى مَبدأ ولا يُوثق أبدًا فيه. بعضُ الناسِ خائنٌ بطبعِه ينتظر الفرصَة ليطعنَ غدرًا، فيما البعضُ الآخر لا يَخون ولو أُكرِه وتعرَّض للضَّغطِ الشديد. فى عديدِ الأعمال الدرامية تأتى مشاهد البَطلِ الذى يجد نفسَه أمام مَوقِف اختيارٍ ما بين المُوالسَة أو تلقّى العقاب الفورى. يتمنى المشاهدون أن يروا آياتِ الصُّمود والجَلَد، وأن يُحققَ البطلُ على الشاشةِ ما يَعجز كثيرُهم عن تحقيقه فى الوَاقع، فإن سَقَط فى الاختبار؛ أهالوا عليه التراب، وأعربوا فى سُخطٍ عن استهجانِهم واستيائِهم، وتناسوا لوَهلةٍ حالهم.
• • •
إذ يجىء الحديثُ مُلتفًّا مُعوَّجًا ومُفتقِرًا إلى الصَّراحةِ والوضُوح، وإذ يمتلئ بالتلميحاتِ والإسقاطات ما انكشفَ منها وما غَمض على السَّامعين؛ يوُصَفُ صاحبُه بأنه قد وَلَسَ الكلامَ، والمعنى أنه انتهج أسلوبًا غير مباشر؛ فعَرَّضَ ولم يُفصح. الدافع فى العادة صِراعٌ داخليٌّ يَمُرُّ به المرءُ ما رَغَبَ فى التعبير عن مَكنونِ نفسِه، ونَكَصَ فى الوقت ذاته عن مُواجهةٍ قد تنتهى فى غير صالِحه. تخيب مُحاولة التوفيق بين الرغبة والعجز أغلب المرَّات، فمهارة التلاعب بالكلماتِ صارت من النوادر، وبلاغةُ الخُطباءِ الأقدمين قد باتت من المُعجزات التى ولّى زمنها وانقضى.
• • •
إذا توَالَسَ الجَّمع فقد توافق على الخَديعة، ولقد وَلَسَ بعض العرب وتوالسوا إزاء ما يجرى على أرض فلسطين؛ كلٌّ يزعقُ فى الصباحِ والمَساء مُستصرِخًا الآخرين، مُناديًا بضرورة إيقاف العدوان الهمجى المُتواصل منذ السابع من أكتوبر، وبحتميَّة تولى المجتمع الدولى مسئولياته. الكلُّ يغضُّ بصرَه فى الوقت ذاته عن أنه جزءٌ من هذا المجتمع الذى يتوجَّه إليه، ويتجاهل أن فى مَقدوره صنع الفارقَ إن أراد، وأن إلقاء الكُرةَ فى مَلعبِ غيره لا يعفيه من الواجب الذى لا جدال فيه، ولا يحميه من مُساءلة الضمير الجمعى، كما لا يقيه شرَّ ما سوف تسجله لاحقًا صفحاتُ التاريخ.
• • •
إذا قيل وَالَسَت الإبلُ كان القصد أنها لاحَقَت بعضها البعض وتسابقت، والحقُّ أن الإبلَ والنُوقَ تمضى الواحدةُ منها فى أثرِ الأخرى، لا تنظر عن يمينها أو يسارها، تنقاد بالذى يتقدمُّها وتصنع مثلما يَصنع؛ حتى وإن أخذتها الطريقُ إلى المَذبح وأوردتها مَورِدَ التهلُكة.
• • •