الحياة بين النادى والميدان - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 11:45 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الحياة بين النادى والميدان

نشر فى : السبت 16 فبراير 2013 - 8:00 ص | آخر تحديث : السبت 16 فبراير 2013 - 8:00 ص

خارج محيط القصر والطرقات المفضية إليه، تسير الحياة شبه عادية شبه روتينية، بلا تَغَيُّر يُذكَر؛ الشوارع مزدحمة، تلتصق العربات إحداها بالأخرى فى انتظار ثغرة للعبور، يفتش المارة عن المساحات الخالية، ويتحركون فى مسارات ملتوية متجهمين، بينما يلوح العسكرى الضعيف ذو اللون الفوسفورى بعصاه دون فائدة. مطاعم الوجبات السريعة تفتح أبوابها للجميع، محلات العصائر والفول والشاورمة تمارس عملها التقليدى فى تعبئة البطون، وبائعو الأرصفة مرصوصون فى أماكنهم يحاولون اجتذاب الزبائن إلى بضائعهم الرخيصة.

 

•••

 

مفارقة عجيبة تلك، أن تكون على بعد كيلومترات قليلة من كل هؤلاء معارك طاحنة، تدور، دون أن تنعكس بشكل واضح على ما سواها. مفارقة عجيبة يمكن لمسها، ما بين هدوء المتريضين فى النوادى، والمتسامرين على المقاهى، والمتسوقين فى المولات القريبة، وبين غليان حاملى اللافتات، والحجارة، والمولوتوف، والمشتبكين مع قوات الأمن، والمتصدين لمحاولات الفض والقنص والقمع.

 

•••

 

أذكر أن الملاحظة نفسها راودتنى خلال الأيام الأولى من عمر الثورة، لكنى لم أجد الوقت لألتفت إليها. كانت الأمور تسير بعيدا عن محيط ميدان التحرير، وربما فى بعض الشوارع القريبة منه، بشكل شبه طبيعى، لا يتناسب مع ما يجرى داخله. خلال أحداث محمد محمود الأولى والثانية أيضا، كان الميدان ذاته الممتلئ بالثائرين وبالخيام، يعيش حياته التى ألفها واعتادها؛ حياة عامرة بدوائر النقاشات السياسية والمناظرات، وباللافتات والرسوم، وعربات البطاطا والذرة المشوية. ظل يمارس أنشطته اليومية بينما كان هناك جحيم يشتعل أمام وزارة الداخلية، يسقط فيه قتلى وجرحى بالعشرات. همزة الوصل بين المكانين المتجاورين والأمزجة المختلفة، كانت رائحة القنابل التى يحملها الهواء، والمستشفيات الميدانية المقامة على الأطراف، والدراجات النارية التى تقطع المسافة ناقلة المصابين. بالمثل، ما زالت نوادى مصر الجديدة تكتظ بأعضائها يومى الخميس والجمعة ــ كما هى عادتها الأصيلة ــ ومن حولها أجواء الثورة ومناوشاتها، باستثناء نادى «هليوبوليس» بالطبع، الذى تدق الحرب أبوابه، ربما كل مساء.

 

•••

 

مساحة تناقض هائلة، يمكن تأملها طيلة الوقت، سواء على الصعيد المادى أو النفسى، ما بين بؤر المعارك العنيفة التى تندلع هنا وهناك، والمناطق المتاخمة لها؛ التى يرتادها متسوقون ومحبون وأحيانا أشخاص عائدون من أشغالهم رغم أنف كل شىء. المسافة بين الجبهتين قصيرة دائما إذ ما قِيسَت بالأمتار، متسعة إذ ما قُيِّمَت بالوضع الميدانى وبحالة الأشخاص الموجودين على كل منهما، بحيث تصبح الصورة الكلية التى تجمعهما شديدة الغرابة، شديدة العبثية.

 

•••

 

لا أظن أن لكل مشهد فريق ثابت يمثله بصفة دائمة، فكثير من الناس يتنقلون بين الجبهتين: الشخص المقاتل الآن قد يكون هو المتجول الهائم بعد ساعات قليلة أو أيام، أو الساهر أمام أدخنة الشيشة، أو حتى الجالس فى السينما، دون يشغل ذهنه بما خارجها. عن نفسى لعبت الدورين معا من قبل، كنت فى القلب من بعض المعارك لمرات، وكنت على حوافها البعيدة فى أخرى، أيام عدوت غاضبة بين عبوات الغاز، وأيام سرت متبلدة، أنعم بحالة من السلام، أتطلع إلى واجهة زجاجية تعرض الملابس، أو أجلس على مقهى أتناول فيه مشروبا ساخنا غير عابئة بما يجرى فى الجوار، وفى بعض المرات كنت أضبط نفسى فى حال التعجب والضيق، لأننى أجلس فى البيت، أتابع فيلما أجنبيا قديما على شاشة التليفزيون، بينما تنقل القنوات الإخبارية أنباء هزائم أو انتصارات الثوار.

 

•••

 

قد يستدعى الأمر شعورا بالذنب: أن تظل هادئا مستكينا دون خوف أو توتر على حدود ينطلق فيها الغاز، أن تقرأ الجريدة وفى أذنيك صوت الرصاص، أن يمكنك مزاولة الطقوس اليومية المألوفة وسط ما هو استثنائى، أن تقرر فى لحظة ما الانفصال عما يدور، وأنت تدرك أنك عائد إليه لا محالة بعد قليل.

 

رغم الشكل العبثى، وطرافة المشهد المتناقض لمن يتابعه من الخارج، فهناك فوائد لا يمكن إنكارها؛ يُقَال إن النجاح فى الانخراط وسط التفاصيل الصغيرة المعتادة، قد يحمى المرء من وطأة الأحداث الكبيرة وضغوطها؛ يقلل من تأثره بها، يوفر له غطاء نفسيا جيدا، ويُبقى له على شىء من الاتزان، مُدعِّما قدرته على التحمل والمقاومة، بما يكفل له الاستمرار لأطول فترة ممكنة.

 

•••

 

تلك طريقة تخيرناها تلقائيا للتعايش، واستئناف الحياة على مر السنين، طريقة تجعل الطرف المعتدى يَمَلُّ منا، ولا نَمَلُّ نحن، لأننا نفعل كل شىء فى الوقت نفسه نمارس كل ما اعتدنا عليه، ونتبادل الأدوار بسلاسة.  تتسلم مجموعات راية الثورة من أخرى تأخذ هدنة، فيما يحل الغاضب محل المكتئب ويتنحى المجهد ليتصدر العفى مكانه وتنضم المجاميع الهائلة عند الحاجة إلى وجودها.

 

•••

 

للحق، لم يخزل الشارع قضيته خلال السنتين الماضيتين، فقد امتلأت الميادين بالناس وقت أن كان من الضرورى إعلان موقف شعبى واضح، لكن تلك الميادين سرعان ما كانت تخلو، دون تحقيق المطلب، فيعود الناس إلى ممارسة الحياة الطبيعية، ويبقى القليلون يناوشون ويصرون على المضى قدما، وهكذا دواليك.

 

•••

 

ربما أسهمت هذه الطريقة فى جعل التغيير بطيئا جدا وأحيانا متعثر، لكنها على كل حال لم تجهضه ولم تتركه يتوقف تماما، وللمتشائمين: البُطء فى حد ذاته يمكن أن يُشَكِّل ميزة هامة، فما يأخذ وقتا فى النضوج والاكتمال، غالبا ما يكون الأكثر رسوخا وثباتا.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات