فى حب الراديو - تمارا الرفاعي - بوابة الشروق
الخميس 26 ديسمبر 2024 5:33 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

فى حب الراديو

نشر فى : الأربعاء 16 فبراير 2022 - 10:35 م | آخر تحديث : الأربعاء 16 فبراير 2022 - 10:35 م
صادف هذا الأسبوع اليوم العالمى للراديو، تبعه يوم القديس فالنتاين للحب، فقررت أن أعطى للراديو ما يستحقه من حب، أو على الأقل أن أحتفل بحب الراديو، ذلك الصوت الذى أسمعه من مطبخ بيت الجيران حين أقف فى مطبخى أمام الشباك، فأكاد أطل برأسى على منور العمارة لأطلب أن يرفعوا الصوت قليلا حتى تصلنى الأغانى بشكل أوضح من فوق رائحة الطبخ.
• • •
فى عصر تطبيقات «سبوتيفاى» و«أى كلاود» التى فتحت باب الأغانى وأعطت حرية تامة فى اختيار ما نسمع، أحزن على أطفالى وأبناء جيلهم ممن لم يعتادوا أصواتا بعينها تنظم يومهم وأسبوعهم على إيقاع برامج قد يحبونها أو يضجرون منها إنما أوقاتها معروفة وأصحابها شخصيات من أعمدة الحقبة من حولهم.
• • •
قدم الراديو مسلسلات وبرامج تعتبر خالدة، أو هكذا يراها من عاصرها واستمع إليها سواء قبل ظهور التلفزيون أو فى سنوات التلفزيون التى سبقت ظهور الفضائيات. يبدو لى أن ظهور الفضائيات وبعدها توفر البرامج والمسلسلات على منصات طويلة موصولة بالإنترنت قد قضت تقريبا على الدور المركزى الذى لعبه الراديو لعقود. ورغم استمرار بعض المحطات المحلية الخفيفة والدولية الثقيلة كإذاعة البى بى سى أو كان يسميه أسلافى بـ«إذاعة لندن»، رغم استمرارها بالبث إلا أن هنا أيضا تم استبدال الراديو ببرامج الـ«بود كاست» وصار بإمكان أى شخص أن يختار بدقة ما يريد أن يستمع إليه.
• • •
أنا من جيل عاصر نقلة كبيرة فى أدوات التواصل والإعلام، أى أننى شهدت آخر مراحل أهمية الراديو فى الحياة اليومية، ومازلت أستمع إلى المحطات الخفيفة فى السيارة مثلا، إلا أننى أختار لائحات مفضلة من الموسيقى من على تطبيقات على الإنترنت. كما أننى شهدت انتقال المشاهدين للقنوات الأرضية فى بلادنا إلى الشبكات الفضائية ثم إلى منصات خاصة أيضا توفر خيارات للمشاهد بدل البرامج اليومية التى اعتاد أن ينتظرها الناس من غرف الجلوس ومن أمام موائد الطعام.
• • •
اليوم، وبعد أن تراجعت أهمية الراديو فى حياة جيلين على الأقل، أحاول أن أتذكر شعورى حين كان الراديو يبث قصصا وأغانى وأخبارا، فأسمعه فى بيت جدتى (أظنه كان من بيت الجيران ويصلها من حديقة بيتها الداخلية)، ثم أخرج من البيت فأسمع باقى البرنامج من البقال أبو عبدالله فى آخر الحارة، ثم أصل إلى محل أريد أن أشترى منه شيئا فأسمع موسيقى درامية تعلن الحكم الأخير بالقضية.
• • •
أى قضية، قد يتساءل القارئ؟ «حكم العدالة»: برنامج سورى كان يعيد سرد قضايا مرت على المحكمة وصدر بشأنها أحكام، عادة ما كانت قضايا جنائية أو أسرية كان ينتظرها المستمعون ويتم فيما بعد الحديث عنها فى الجلسات الاجتماعية. البرنامج كان أشبه بمسلسل فقد كان يعاد تمثيل ما حدث بشكل سمعى بأصوات ممثلين وممثلات وموسيقى تشويقية وختامية بعد صدور الحكم. كان هذا البرنامج محوريا فى حياة السوريين، تماما كما كانت نشرة أخبار تأتى من «لندن»، وأخرى من القاهرة.
• • •
أنا أحب الراديو، أحب أن أشعر أن الراديو يهدينى أغنية اختارها لى تحديدا دون غيرى، أنا المستمعة فلانة، أو يناكفنى بأغنية أخرى لا أحبها فأتأفف من كآبة صباح تعلن عنه أغنية حزينة، أحب أن أستبشر خيرا بنغمات فرحة تكشف عن يوم لطيف، وحتى أن أتوجس من يوم بدأته على نغمة مريبة. الراديو بالنسبة لى لطالما كان مثل قراءة الأبراج فى الصحيفة اليومية. ياه كم هذه العبارة قديمة: لم يعد الراديو ولا الصحيفة اليومية ولا صفحة الأبراج يعنون شيئا لأحد اليوم!
• • •
فى حب الراديو أقرر أن أتحمل دلع مذيعة تحكى أكثر مما تبث الأغانى، أظن أننى لم أعد معتادة على كل هذه المقدمات بعد أن أصبح الفضاء مفتوحا على كل أغانى العالم تقريبا دون مقدمات. إلا أننى أستمع إلى المذيعة وأرد عليها بل وأطلب منها أن تتوقف عن الكلام وتكثر من الأغانى، ها أنا إذا أتحدث مع المذيعة دون أن تسمعنى، أرد على سؤال تطرحه قبل أن تبدأ أغنية تطلب هى من «فادى» أن يهديها للمستمعين. نعم اسم زميلها فادى وهى الأخرى تتحدث معه دون أن نسمع نحن صوته.
• • •
ربما سيختفى الراديو من حياتنا تماما بعد سنوات، ربما نشهد اليوم آخر أيام هذه الوسيلة التى كان السوريون يرسلون من خلالها سلامات وأخبارا إلى أهلهم فى الجولان المحتل أو فى فلسطين! أنا أذكر بقليل من الضباب تلك الأخبار فعلا، فلان من الأولاد تزوج وآخر تم قبوله فى كلية الحقوق، وسلام من أم أحمد (وما أكثرهن) إلى أختها فى قرية فى الجولان لا يمكن لأم أحمد أن تصل إليها. أترى سمعتها الأخت هناك؟
• • •
إن اختفى الراديو تماما فى هذه الصيغة التى مازلت أذكرها، لن يهدينى الكون أغنية على غفلة منى كما أحب أن يفعل. سيختفى إذا مصدر للمفاجآت اللطيفة التى ألعب معها أحيانا وأتساءل عن حظى المرتبط بالأغنية القادمة. لا يفهم أولادى هذه اللعبة وأحزن عليهم من حياة يقررون فيها كل شىء، أو هكذا يعتقدون. الراديو، تلك العلبة الصغيرة فى ذاكرتى، التى تهدينى أغنية فى الصباح والمساء أحدد فيها مزاجى: هذه تحية فى حب الراديو.
تمارا الرفاعي كاتبة سورية
التعليقات