لم تكن المُغادرة إلى بلدٍ بعيدٍ على البال؛ لكنها صارت في حُكم الضَّرورة بعدما تعقَّدت الأوضاع وبات البقاءُ في حُكم العَبث؛ الفرصةُ السانحةُ لن تلبثَ أن تصبحَ من الخيال، لكن الفراقَ يظلُّ ثقيلًا مُوجعًا. بعضُ المرَّات يتَّخذ المرءُ قرارًا صعبًا، يحتكم فيه إلى عقلِه ويتجاهل مشاعرَه؛ وإذ يندهش مَن حَوله، يأتي السؤالُ في استنكار: أ طاوعك قلبُك؟ والمراد لومٌ وعتاب، فللقلب مكانته المقدرة ومخالفته تؤخذ من بابِ القسوة وتحجُّر المشاعر.
• • •
يأتي الفعلُ طاعَ في قواميس اللغة العربية بمعنى وافَق وأذعن، الطائع هو الفاعل، أما المُطيع فيتبع الفعلَ أطاع، وكلاهما يشيران إلى شخصٍ خاملٍ لا يعلو صوتُه ولا يجهر برأيه في مُواجهة أو نقاش. مِن المُفارقات الُّلغوية أن المُطاعَ مفعولٌ به؛ رغم أنه دومًا في موقع السُّلطة، تُقدَّم له القرابينُ وتُبذَل في حضوره فُروضُ الولاء.
• • •
الطاعةُ درجةٌ من دَرجاتِ الإذعان، والإذعانُ طريقٌ معلومةٌ تمضي نحو إعلانِ الاستسلام، والخطواتُ إن اتُخِذَت على هذه الطريق؛ تعذَّر إيقافُها، فالخطوةُ الأولى تستدعي الثانيةَ والثالثة، ولا يتوقف المرءُ إلا حين يَصل للنهاية المَحتومة، فيُبصر نفسَه وقد تحوَّل إلى كائنٍ بلا حَول ولا قوَّة.
• • •
جرى العرفُ ألا نقول لشخصٍ نرغب في تلقِّي استجابته: أطِع الكلام؛ بل نقول: اسمع الكلام، والقَّصد من السَّمع هنا التنفيذ وتلك عادتنا في النطقِ بغير ما نريد ونعني؛ القائلُ والسامع مُتواطئان على التحريف، متوافقان على المُراد.
• • •
الطَيِّع هو الليِّن القابلُ للتشكيل؛ وإذ تُوصَف المادةُ بأنها طيِّعة؛ فميزة لا جدال فيها، أما أن تكون على غرارها طبائع الإنسان؛ فمما تُوضع تحته خطوطٌ كثيرة وتحذيراتٌ أكثر؛ إذ لا تغنيه المرونةُ عن وجود دعائم قوية في بناء شخصيَّته؛ لا تنحني مع العواصِف ولا تنثني مع الضغوط.
• • •
أذكر شخصيةَ مُطاوِع التي أداها القدير محمود الحِدِّيني في مُسلسَل الرايةِ البيضاء منذ سنوات. مُطاوِع هو الخادم الأمين في منزل الدكتور مفيد أبو الغار؛ لكن مِهنتَه واسمَه لم يعنيا أبدًا أنه بلا إرادة أو رؤية، ولا أنه مَجبولٌ على الطاعةِ وحدها. لعب مُطاوِع دورًا مؤثرًا في مُواجهة الطغيان المادي على الأثر والحضارة؛ لكنه لشديد الأسف لم يكُ حاضرًا حينما تحوَّلت الدراما إلى حقيقة بشعة مُخيفة، فدكَّت الجرافاتُ تاريخنا دون أن تجدَ من يقف أمامها. المُسلسل من أبدع ما كتب أسامة أنور عكاشة ومن أجمل ما أخرج مُحمد فاضل، وقد عُرِضَ في النصف الثاني من الثمانينيات؛ والحقُّ أنني كلما صادفته على قناةٍ تابعته مستمتعة، وآسفة على ما صرنا إليه في آن.
• • •
الطاعةُ المُطلقةُ قَيد؛ إن ألزمْ به المرءُ نفسَه فقد هانها، وإن صارت منه خصلةً أصيلة؛ فَقَدَ أهمَّ ما يُميِّزه عن الدابةِ وصار بلا إرادة وربما بلا عقل. بعضُ الأعمال والمِهن تتطلَّب التدريبَ على الطاعة والالتزام، إن تلقَّى صاحبُها أمرًا نفَّذه دون نقاش؛ أما إن طوَّعت له نفسُه أن يفعلَ كذا وكيت، وزيَّنت له ما يرغب فانساق وراءها، كانت عاقبتُه على الأغلب مؤسفة.
• • •
عادةً ما يريد الرئيسُ من المَرؤوس أن يكونَ طَوع يَمينه، فيُنفذ ما يَطلبُ منه ولا يرفض له أمرًا، والشاهدُ أن مثل هذه العلاقة تنتهي إلى الفشل في كثير الأحيان؛ فالتفاعل بين الطرفين واجبٌ، ولا يُعقَل أن يحوزَ الأعلى فيهما الصَّوابَ التام على الدوام، ولا أن يكون الأدنى باستمرارٍ على خطأ؛ إنما هي الذات المُتضخِّمة التي ترى كلَّ من حولها على هيئة أقزام، فيما تعجز عن رؤية حقيقتها.
• • •
يقول المأثور: إن أردت أن تُطاع فأمر بما يُستطاع، والقولُ على ما يَحمل من حِكمة ظاهرة، فإنه يبغي في باطنه حمايةَ مَنظومةَ الطاعةَ وحفظ هيبتها لأصحابها؛ فلإن كان المَطلوب عصيًا على التنفيذ، تقاعس الناسُ عنه، وإن تكرَّر تقاعسُهم انكسرت عصا الطاعةِ بسبب الاستحالة، وتعذَّر استرجاعها.
• • •
التطويع عملٌ يُشبه الترويض؛ فهو تبديلٌ فيما درج عليه الناسُ وتغييرٌ في طبائعِهم، والمُطوِّع هو الشَّخصُ الذي أوكِل إليه فيما مضى تهذيبُ سلوك الأشخاص الذين عدُّوا من المنحرفين ببعض المناطق والبلدان. مَرَّت الأيامُ ولم يعد للمُطوِّع مكان؛ كان وجوده جالبًا للنقد مُحرضًا على التمرد؛ ثم أفرز غيابُه عديدَ التساؤلات.
• • •
طَوْع يديك أيّ مِلكك؛ يسهُل أن تتصرَّف فيه، وطَوْع أمرِك أيّ رَهن إشارتك؛ ينفذها بلا إبطاء. هذا الذي خرج عن الطَّوع قد خالف وعصى، وسار في طريقٍ غير الذي يسلكه القطيع؛ وجوده خطرٌ على السادة إذ قد يشجع الآخرين على اتباعه، ومن ثم يتبدى إقصاؤُه عن الساحة كلها أسلمَ سبيل.