فجع العالم، شرقا وغربا، لأن النار أتت على أجزاء مهمة من كاتدرائية نوتردام الشهيرة فى باريس. بالتأكيد هى تحفة فنية بديعة، وتراث انسانى عظيم، وما من زائر لعاصمة فرنسا لا يذهب إلى هذه الكاتدرائية التاريخية، ويلتقط أمامها الصور التذكارية. فعلت ذلك شخصيا عدة مرات. ووجدت فور الحادث المؤسف العشرات على موقع «فيس بوك» ينشرون صورا لهم أمام الكاتدرائية، أو بداخلها، معتزين بها، وهم يشعرون بالأسى. لم يكونوا مسيحيين فقط، بل من المسلمين أيضا ممن رأوا فى هذا المكان معلما تاريخيا مهما أولى بالزيارة، والاحتفاظ بالذكريات معه، أكثر من كونها كنيسة كبرى. بالتأكيد سوف تنهال التبرعات من داخل وخارج فرنسا لترميم كاتدرائية نوتردام لتعود إلى ما كانت، وربما أكثر بهاء وفخامة، وهو ما سوف يشكل صدمة لأعداء الحضارة الانسانية الذين أفرطوا فى التعبير عن مشاعر التشفى، والفرحة لحريق معلم إنسانى بديع. هؤلاء نعرفهم جيدا، فهم الذين عبروا عن سعادتهم من قبل لتدمير الحضارة الانسانية فى مجتمعات أخرى مثل العراق وسوريا وأفغانستان، وغيرها.
وقعت هذه الحادثة أثناء احتفال العالم الغربى بأسبوع الآلام، الذى يسبق احتفال عيد القيامة، وهو يعد لدى المسيحيين أيا كانت مذاهبهم من الأيام المقدسة كل عام، وجاءت لتذكرنا جميعا بإشكالية الدين والعلمانية فى المجتمعات الأوروبية. فقد نظر كثير ممن عبروا عن حزنهم إلى الكاتدرائية العظيمة بوصفها معلما إنسانيا وتراثيا يزوره أربعة عشر مليون سائح سنويا، وهذا صحيح بالتأكيد، لكن لم ينظر كثيرون إليها من منطلق كونها مكانا روحيا مسيحيا فى دولة التنوير، والتى أخذت العلمانية بها شكل الابعاد التام للدين عن الحياة العامة، مختلفة فى ذلك عن نماذج أوروبية أخرى فى بريطانيا وألمانيا أو الدول الاسكندنافية أو نماذج مغايرة مثل ايطاليا واليونان.
قد يكون فى الحادث مجال للتفكير فى العلاقة بين الدين والعلمانية فى ضوء متغيرات كثيرة. فقد أعطت الهجرات إلى أوروبا مساحة أخرى للعلاقة مع الدين، فقد أتى كثير منها من مجتمعات لها تراث دينى فى إفريقيا أو أمريكا اللاتينية أو شرق أوسطية. وقد رأيت كنائس كاثوليكية كبرى فى مدن أوروبية، من بينها كاتدرائية نوتردام نفسها، تفيض بالمصلين يوم الأحد، غالبيتهم من أمريكا اللاتينية أو إفريقيا، ينطبق نفس الأمر على الذين وفدوا إلى هذه المجتمعات من دول شرق أوسطية سواء كانوا مسيحيين أو مسلمين، حيث يظهر ارتباطهم بالظاهرة الدينية، وتحفظهم على العلمانية فى هذه المجتمعات، وعدم رغبتهم فى الاندماج الثقافى بها، رغم استعدادهم، وسعيهم للاندماج الاقتصادى. وهناك فى المقابل مؤشرات عديدة عن بعث حركات دينية مسيحية فى المجتمعات الأوروبية تعبر عن نفسها هى الأخرى فى مساحات جديدة من التدين رغم أنها لا تعد ظاهرة بالمعنى العلمى، ولا تعبر عن نسبة من السكان يمكن القياس عليها.
بالتأكيد أسهمت العلمانية الأوروبية فى الكثير من الأفكار النقدية المهمة فى الحياة الاجتماعية، والتأكيد على التفكير العلمى، ونشر الروح العقلانية، والاستنارة الفكرية، لكن يظل سؤال علاقتها بالدين مفتوحا، والتساؤلات حوله كثيرة خاصة فى ضوء التحولات العالمية.