في ظهيرةِ يومٍ مِن الأيامِ، حمَلَت الطفلةُ ذات الأعوام العشرة حقيبتين مِن المشترواتِ وصعدت بهما السلم؛ تبغي توصيلَهما إلى الساكِنة التي تنتظر وصولَها بفارغِ الصبر.
***
في الحقيبتين فاكهةٌ وخضرواتٌ، وأصنافٌ مِن الجبن الأصفر والأبيض، وبرطمان زيتون، وأشياءٌ أخرى لم تحفظها؛ لكنها مُسجلة في ورقةٍ، والورقةُ راجعها البائع في السوبر ماركت وتأكد مِن أنه قد وضع المَطلوبَ دون زيادة أو نقصان. تلك مُهمةٌ يومية إذ تعود الطفلةُ من المدرسةِ لتساعد أخوتها في قضاءِ حاجيات السكان.
***
ضَغَطَت الجرسَ بأصابعَ مُرتعشة من ثِقل مشترواتها، ففتح طفلٌ في مثل عمرها وإن بدا أكثر امتلاءً. قرصها في كتفِها النحيلةِ، وسدَّد لبطنها لكمةً، ثم جذبها مِن شعرِها وصاح: أبوكي بواب.. امشِ مِن هنا ريحتك وحشة. أتبع كلامَه بأن دفعَها في صدرها؛ وهي لا تزال تحملُ الحقيبتين واحدةً في كل يد.
***
وصلت أمُ الطفلِ فوجدتها على وشك البكاء، سألتها ما بها فقالت: حسام ضربني. تناولت الأم منها حملَها، وأحصت بقيةَ النقود، وردَّت: طيب معلش. انزلي أنتِ.
***
تكرر الموقفُ مرةً ومرات، وفي إحداها ألقت الطفلةُ بالحقائبِ التي تحملها أرضًا وبادلت القرصةُ بمثلها والدفعةُ بأشد منها، فلما راح الصبيّ يسبها ويعيرها بأنها ابنةُ البواب، ولا حقَّ لها في أن تضربَه أو تشتمه كما يفعل هو، ردَّت عليه بسبابٍ قاذع نال مِنه ومِن أمه على حدٍ سواء. هرول حسام إلى داخل منزلِه يبكي، هلعت أمه وعادت معه مُسرعة إلى الباب؛ لم تُمهِل الطفلةَ لحظةً كي تشرح لها ما جرى، بل نهرتها وانتزعت منها الحقائبَ- التي عاودت حملها- في عنف، وجعلت تهددها: لازم أقول لأبوكي يربيكي.. أنتِ مخك طار؟ ثم صاحت بصوتٍ أعلى تُسمِع زوجَها: بنت البواب على آخر الزمن تمد يدها على حسام.
***
لم يكُن حسام هو الوحيد الذي يضرِب الطفلةَ ويؤذيها. اجتمع أبناءُ وبناتُ الجيران كلهم على تلك اللعبةِ المُسليةِ، طقس يوميّ يفرغ الطاقةَ ويجلب السرور. مَسموح لهم بصفعِها وضربِها إذ هم أبناءُ السادةِ والسكان، وغير مسموح لها بالرد أو بالدفاع عن نفسِها مهما فعلوا، وما مِن شخصٍ عاقلٍ يوقف اللعبةَ؛ فالأطراف المشتركة؛ فاعلة ومُتفرجة، توافقت على أن تبقى الحالُ على ما هي عليه.
***
سمِعت الحكايةَ مِن صديقٍ طَلَبَ منه البوابُ أن يرشدَه إلى طبيبٍ يُعالج البنت، ويقوم سلوكَها الشائن. يرى البوابُ أن ابنته تتمادى وتتجاوز كلَّ حَد، وأن عليها الصَّمت إزاء ما تتعرض له وإلا تعرَّض هو نفسُه للطرد وكفى به الإهانة. المدهش أن الرجلَ مُقتنِع تمام الاقتناع بأن ابنتَه مريضة. ترد الضربَ بالضربِ والصفعَ بالصفعِ وتسبُّ مَن يسبها. سلوكُها معيب في وجهةِ نظره، والسلوكُ الطبيعيّ الذي يريد؛ أن تسكتَ البنتُ مثل بقية أخوتها وأن تقبلَ وترضى، ولا يُسمَع لها حس. هذا مَوقعه ومَوقِعها في الحياة ومجنون مَن يُفكر في التغيير.
***
على جسمِ الطفلةِ علامات؛ كدماتٌ وبعضُ جروح، لا بسبب ما يفعله بها أطفالُ السكان؛ صبيان وبنات؛ بل حزامُ أبيها الذي ينهال عليها كلما شكاها ساكنٌ، وأعلنَ استياءَه العميقَ مِن سوءِ أدبها، وجرأتِها غير المَعهودة في رد اعتداءِ أبنائه وبناتِه عليها.
***
المنطقةُ التي تضمُّ هذا وذاك ليست بفاحشةِ الثراء، والفوارقُ الطبقيةُ بين البوابِ والسُّكان أقل من المُتوقَّع، والحقُّ أنني دهشت، فالفجوةُ ضئيلةٌ والمَسلك المُتعالي لا يجد سندًا منطقيًا في الوَضع الاقتصاديّ للطرفين؛ لكنها مُتوالية القهر الشهيرة؛ إذ يبحث المقهور عن الأضعف منه وإن بنتفةٍ ليقهره، لكنه لا يسعى أبدًا لمواجهةِ قاهره الذي يحتلُّ مرتبةً أعلى؛ إذ لا يستطيع تحمُّل النتائجَ والتبِعات.
***
أعرف مِن البشرِ مَن تحمَّلوا ظلمًا وعدوانًا قاصمين؛ لكنهم وقفوا دومًا أمام ما يمَس أولادهم. دفعوا أثمانًا باهظة؛ لكنهم قاوموا، وإن لم يكُن هناك بُد من أن يتحملوا صورًا مِن الإذلال؛ فلكي يحيا الأولاد بشيء مِن الكرامة. أعرف مِن أصحابِ المِهن البسيطةِ التي لا يقابلها المُجتمع في العادة بالاحترام والتقدير؛ مَن احتفظوا رغم تعاسة الظروفِ بكبرياءٍ وافر. أذكر أحدَهم بالإعجاب بين الحين والآخر، وقد حملَ متاعَه القليل وفزَّ تاركًا عمله، مُنتصرًا لكرامته، رافضًا مُعاملةَ أصحابِ المكان له بغلظةٍ، واستهانتَهم بحقوقِه التي يدركها، وما تراجع عن قراره إلا بعد استرضاءٍ مُتواصِلٍ وبذلِ وعود؛ تحقَّقَ منها ما تحقَّق، وتلاشت بقيتُها مع التقادم؛ لكنه سجَّل موقفًا مشهودًا.
***
في ظلّ مجتمع قائم على تراتبيةِ القهرِ بمُختلف ضروبها، يستمسك بعضُ الناس بآدميتِه، وبعضٌ آخر يتنازل عن جزء منها؛ وهناك مَن يبحث عن دواء يُخفف مِن متاعبِ الكرامة. لا تزال البنتُ على حالِها، ولا يزال أبوها راغبًا في علاجها؛ لعلها ذات يوم تشفى وترفع رايات الاستسلام.