ــ 1 ــ
من بين أهم الإنجازات (أو التى يمكن أن نحسبها إنجازاتٍ على الحقيقة لا المجاز!) للميديا الحديثة وانفجار وسائط المعلومات وتداولها، وضمنها كل وسائل السوشيال ميديا (فيسبوك وتويتر وإنستجرام.. وغيرها)، وكذلك مواقع الفيديو وعلى رأسها «يوتيوب»؛ حفظُ وتخزينُ وإتاحةُ الآلاف (لا أريد أن أكون مبالغا فقد تكون ملايين) من المواد السمعية والبصرية التى تشكِل أهمية وقيمة خاصة فى الثقافة التى تنتمى إليها؛ أى ثقافة بأى لغةٍ وفى أى مكانٍ فى العالم!
على سبيل المثال، ما وعته هذا الحافظة الكونية الجامعة من مواد مذهلة تتصل بشهر رمضان الكريم، وما أكثرها وما أغزرها وأندرها وأحلاها من تراث الإذاعة والتليفزيون المصريين (ناهيك عما ضاع أو فُقد أو نهب أو تَلف أو تعرَض للسرقة والسطو!).
ــ 2 ــ
أتحدث عن ميراثٍ سمعى وبصرى يمتد لما يقرب من تسعين سنة (افتتحت الإذاعة المصرية رسميا عام 1934، وانطلق البث الأول للتليفزيون المصرى عام 1960) أى أننا نتحدث عن إنتاج ما يقرب من ستين سنة كاملة منذ بدأ التليفزيون بثَ مواده المصورة (تسجيلات نادرة/ تلاوات قرآنية مصورة/ حفلات وصور غنائية/ أوبريتات/ مسرحيات/ استكشات مصورة/ برامج/ منوعات... إلخ) وذلك قبل الدخول إلى مرحلة إنتاج الدراما الناضجة والمسلسلات الرائجة التى ستظهر تباعا منذ السبعينيات، وتزدهر وتتألق طوال حقبتى الثمانينيات والتسعينيات، وهما اللذان نطلق عليهما حقبة ازدهار الدراما التليفزيونية، وفيهما ظهرت معظم الأعمال والمسلسلات التى ما زلنا نستمتع بمشاهدتها حتى الآن تحت وصف «كلاسيكيات الدراما التليفزيونية».
وإذا ركزت بحثك على المواد ذات الطبيعة الوثائقية أو الأرشيفية أو التسجيلية، والبرامج التى استضافت فى وقتها كبار المبدعين والمفكرين والمثقفين، من كل التيارات والاتجاهات والمذاهب، لوجدنا وفرة غير مسبوقة من هذه المواد.. وسنجد بين أيدينا حلقات نادرة وقيمة يظهر فيها نجيب محفوظ، وتوفيق الحكيم، ويوسف إدريس، وعبدالرحمن الشرقاوى، وفؤاد زكريا، ولويس عوض، وعلى الراعى، وشكرى عياد، وعبدالقادر القط، والأبنودى، وأمل دنقل، وأحمد عبدالمعطى حجازى.. وعشرات وعشرات من ألمع نجوم الفن والأدب والإبداع والفكر والإنسانيات والعلوم الطبيعية الذين تكحلت بهم الحياة الثقافية ليس فى مصر وحدها، بل فى جميع أنحاء العالم العربى، فى القرن العشرين.
ــ 3 ــ
هذه الوفرة كانت تتسم بالقيمة العالية بل المتناهية؛ لقيمة هذه الشخصيات التى ظهرت على الشاشة وقتها، أولا، وقيمة محاوريها وقدرتهم على إنطاق ضيوفهم الأجلاء بالثمين والذهبى والغالى، ثانيا، وقيمة اللحظة التاريخية ذاتها التى توقف الزمن عندها، وجرى تسجيل تلك الحلقة أو تلك فيها.. ولدينا نماذج عدة يمكن أن يكون كل نموذج منها محورا لمقال كامل.
لكن سأكتفى بالتوقف قليلا أمام نموذجٍ واحد من هذه النماذج ذات القيمة العالية؛ وهى حلقة رائعة من برنامج (شريط الذكريات) من إعداد وتقديم الإذاعى والشاعر الراحل الكبير فاروق شوشة، أعيد بثها أخيرا على قناة «ماسبيرو زمان» وقد استضاف فيها علمين من أكابر الأسماء فى تخصصهما العلمى والإنسانى والفكرى والثقافى.. هذه الحلقة أعدها واحدة من «مباهج» ماسبيرو زمان التى لا تزول ولا تدول دولتها مهما مرَ عليها من سنوات وسنوات. نعم. إن «ماسبيرو زمان» أحد مباهجنا القليلة فى هذا الزمان!
فى هذه الحلقة النادرة الرائعة الممتعة التى أُعيد بثها على (ماسبيرو زمان)، سيستضيف الإذاعى الكبير فاروق شوشة العلَامة المؤرخ والأديب والمحقق والمترجم المرحوم الدكتور محمود على مكى، دائرة معارف عصره وشيخ شيوخ الدراسات الأندلسية فى الجامعات المصرية والعربية والعالمية، ومعه الراحل الدكتور حسين مؤنس، المؤرخ الموسوعى صاحب المؤلفات الشهيرة، وبينهما يدور واحد من أمتع وأجمل وأزهى الحوارات الثقافية التى يمكن أن تستمع إليها فى حياتك.
حديث رائع ورائق عن الأندلس؛ تاريخا وحضارة وثقافة وعلما وفنا.. وسياحات مدهشة فى جنبات التاريخ الإسلامى، والحضارة الإسلامى، والثقافة العربية الأصيلة، وعمليات المثاقفة الرائعة بين الحضارتين العربية والإسلامية والمسيحية الغربية على أرض الأندلس.
ــ 4 ــ
فى هذه الحلقة، ستتحدث زوجة الدكتور مؤنس «السويسرية» بعربيةٍ مدهشة، وستتحدث ابنته د. منى أستاذة الأدب الإنجليزى بكلية الآداب، عن حرص والديها على تعليمها اللغات، وكيف أدركت أهمية وقيمة أن تتحدث لغة أجنبية أو أكثر جنبا إلى جنب اللغة الأم فى بيت علم ومعرفة وثقافة (لا غنى عنها).. اللغات وما أدراك ما اللغات وأهميتها وضرورتها جنبا إلى جنب إجادة وتعلم اللغة الأم!
كان الدكتور مؤنس يجيد أربع لغات أجنبية بطلاقة مدهشة غير العربية طبعا. كان غزير الإنتاج؛ جدا، تأليفا وتحقيقا وترجمة، وكانت له فرادة فى اختيار موضوعات كتبه وعناوينها معا؛ وتحقيقاته لبعض أهم كتب ومخطوطات تراث الأندلس فى الطبقة الأولى الممتازة من أعمال التراث المحققة تحقيقا علميا محترما (راجع تحقيقه المدهش للمصدر الأندلسى المهم «الحلة السِيراء» لابن الأبَار فى مجلدين).
وسيظل كثيرٌ من كتبه مرجعا أصيلا فى بابه؛ مثل «فجر الأندلس»، و«تاريخ قريش»، وترجمته لكتاب المستعرب الإسبانى الشهير بالنثيا «تاريخ الفكر الأندلسى»، وكتابه الشهير عن «الحضارة».. وغيرها الكثير.
ــ 5 ــ
أما أستاذنا العلامة الجليل الراحل محمود على مكى، فكان حُجة فى العربية والإسبانية على السواء، وكان مضرب الأمثال فى كل ما تصدى له من درس وبحث؛ إجادة ودقة وعمقا واستيفاء وحسنَ عرضٍ.. فى الأدب وتاريخه ونقده، والأدب المقارن، وتحقيق التراث ودرسه، والترجمة، التاريخ والحضارة، الدراسات الإسلامية، تراثا ومعاصرة، شىء معجز ومذهل.
يا ربى على الجمال والرقى والعلم الوافر واحترام قيمة المعرفة، والعمل على نشرها.. رحم الله الكبار!
وأقول: لولا هذه الحلقة الرائعة التى فكَر فيها من فكَر، وأعدَها وقدَمها وحفظها لنا، وللأجيال، من حفظها، لكان فاتنا علم كثير وفوائد جمة، وتسجيل دقيق وتاريخ موثق لاسمين من أكابر الأسماء فى حقلهما المعرفى والثقافى.