فى أولى جلسات الحوار الوطنى خصصت لجنة حقوق الإنسان والحريات العامة بالمحور السياسى نقاشا ثريا حول مواجهة التمييز، أداره كل من د. نيفين مسعد والأستاذ أحمد راغب، وضم بين طياته باحثين، وخبراء، وحقوقيين، ونواب فى البرلمان، وشخصيات حزبية. وبدا واضحا من الحوار أن التمييز ضد المواطنين يؤرق قطاعات واسعة من النخبة المصرية، بما فى ذلك الذين تجاسروا على إنكاره أو الذين خشوا أن يفتح الحديث عنه الباب أمام إعطاء الحرية لجماعات لا تراعى القيم الأساسية للمجتمع المصرى.
ويصعب أن نجد مجتمعا لا يعانى من مظاهر للتمييز ضد مواطنين بسبب الجنس أو اللون أو الدين أو العرق أو اللغة أو الوضع الاجتماعى، أو أى عامل آخر. ولكن المجتمعات الناضجة تطور دائما من أدائها للوقوف فى وجه التمييز، وإقرار مبادئ العدالة والمساواة. وقد أحسن القائمون على الحوار الوطنى اختيار مواجهة التمييز موضوعا ينطلق منه الحوار فى مجال حقوق الإنسان، لأن التمييز هو الفيروس الأساسى الذى يدمر وحدة المجتمعات، خاصة التى تشهد صورا من التعددية. وما من دولة ضرب التمييز بنيتها الأساسية إلا وتقوضت دعائمها، وانفرط عقدها، جزئيا أو كليا. ليست دول المنطقة العربية بعيدة عن ذلك، بل إن بعضا منها يعانى بشدة من سياسات ضد المواطنة آلت إلى تهديد وحدة وسلامة أراضيها.
وتتسم ممارسات التمييز بالتحور الشديد، والقدرة على الاختفاء فى أردية مجتمعية مختلفة، فقد يكون التمييز قانونيا، أو اجتماعيا، أو ثقافيا، وفى أحيان كثيرة يظهر فى ممارسات إدارية لا تستند إلى قوانين أو قرارات، لكنها تعبر عن تصورات موروثة لدى القيادات الإدارية. من هنا عندما تتحدث عن التمييز تجد من يقول لك إن القوانين تساوى بين المواطنين، ولا يوجد قانون أو قرار ينال من المساواة بينهم، ولكن يجرى التمييز فى الواقع دون استثناء عليه!
أدرك تماما أهمية الخطاب الذى يركز على دور التعليم والإعلام فى التغيير الثقافى، وإنضاج وعى الناس فى النظر إلى بعضهم بعضا من منظور المواطنة، والمساواة، والاحترام المتبادل، ولكن من الضرورى أيضا التأكيد على دور القانون فى التغيير الثقافى، لأن الناس قد تحتاج إلى فترة تلتزم فيها خوفا من العقاب، قبل أن يتحول الأمر إلى التزام أخلاقى وضميرى يستند إلى قناعات داخلية.
لا أفهم أن يصر البعض على أنه لا يوجد تمييز فى المجتمع المصرى، وهو إصرار غريب، يخالف نص دستور 2014 فى المادة 53 منه الذى دعا إلى إنشاء مفوضية لمواجهة التمييز، وكأنهم يزايدون على الدستور، فى حين أن الواقع الاجتماعى يعج بممارسات تمييز واضحة للعيان فى مواجهة المختلف سواء كان فى النوع أو المعتقد أو الوضع الاجتماعى، بلغ الأمر صدور تصريحات من مسئولين فى فترات سابقة تنال من فئات اجتماعية معينة أثارت ضجة فى حينها. وتعانى المرأة حرمانا من بعض حقوقها، سواء بنص قانونى أو ممارسات عرفية، ومنها حرمانها من الميراث فى أوساط ريفية عديدة، دون سند من قانون أو دين، ويشكو ذوو الاحتياجات الخاصة، ضمن مطالبهم المتعددة، من عدم تصميم المبانى لتناسب ظروفهم، ويتحدث الأقباط عن استمرار بعض المشكلات الخاصة بهم، رغم التطور الإيجابى فى التعامل معها فى السنوات الماضية، فعلى سبيل المثال تمنح الحكومة موظفيها من المسيحيين إجازة فى عيد القيامة، فى حين أن القطاع الخاص غير ملزم قانونا بذلك طبقا للمادة 52 من قانون العمل رقم 12 لسنة 2003، والقرار رقم 112 لسنة 2003 بشأن تحديد الاجازات التى تعتبر إجازة بأجر كامل للعمال، ويتوقف الأمر على ادراك أصحاب الشركات، وينتهى الأمر فى غالب الأحوال إلى حصول الموظف المسيحى على إجازة من رصيد اجازاته السنوية، وهو يمثل تمييزا ضده، حتى بالمقارنة بأقرانه الأقباط فى الجهاز الحكومى، وكذلك الأقباط والمسلمين العاملين فى البنوك الذين يحصلون على عطلة رسمية فى هذه المناسبة.
الحديث عن أوجه التمييز متشعب، وطريق المواجهة يبدو طويلا لأنه يشمل القانون والثقافة والممارسات الإدارية والتربية، ولكن فى كل الأحوال جيد أن نعترف به، ونتحاور حوله فى سياق وطنى جامع، ونمضى بجدية على درب مواجهته.