قد تتعاطف الأقدار معك وتسمح لك بتوديع من تحب قبل أن يرحلوا، وقد تحنو عليك وتمكنك من إضافة لحظة جميلة جديدة وحديث آخر من القلب إلى رصيدك من الذكريات معهم وهم يهمون بالانصراف. هكذا كان وداعى لجورج الذى لم تفارق الابتسامة وجهه فى لقائنا الأخير به، وكعادته، سأل عن أحوالى واستمع إلى حكايات قريتى فى صعيد مصر ثم تكلم عن أحوال البلد وناسها قبل أن يجيب فى سكينة ووقار عن تساؤلاتى بشأن حالته الصحية.
غير أن تعاطف الأقدار معى وحنوها علىّ فيما خص جورج لم يتوقف عند لحظة الوداع الجميلة والصادقة، بل تواصلا بعد رحيله. توفى أبى وأنا لم أكمل عامى العشرين بعد، ورحلت أمى بعد مرض عضال لم يتمكن الأطباء من علاجه، واختطف فيروس كورونا صديقى العزيز الكاتب والمترجم أحمد عز الدين من غرفة للعناية المركزة فى مستشفى برلينى لم يسمح لى بعيادته فيها. ولم تأت استجابتى النفسية والجسمانية لفقدان من أحب سوى بخليط من البكاء والصمت والعزلة وبرفض داخلى لاسترجاع ذكرياتى معهم بحلوها ومرها لكيلا تزيد أحزانى. أما عندما رحل جورج، فاختلف الأمر. فقد تملكتنى بجانب الحزن والأسى رغبة جارفة فى الاحتفاء بحياته المديدة، وفى التذكر الفورى لبعض مما كان بيننا من مواقف وأحداث، وفى استعادة ذاكرة دموع وابتسامات وضحكات كثيرة تشاركنا فيها وكانت فى حقيقتها التعبير الأصدق عن سماحة وأصالة الرجل البورسعيدى الذى دأب على التعامل مع اللحظات الصعبة التى واجهتها البلاد أو واجهها أصدقاؤه أو واجهها هو شخصيا بشجاعة لا تغيب المشاعر وجرأة تمنع الإمساك بالعصا من المنتصف وتفاؤل منبعه الأمل فى الغد.
ولأن الأقدار كانت قد قررت التعاطف معى عندما رحل جورج، فإنها ساقت لى أيضا حنان ابنتى ناديا التى ما إن شاهدت دموع الفراق تجرى على وجهى إلا واحتضنت رأسى بيديها الصغيرتين ومسحت بعفوية الأطفال على قلبى قائلة إنها أيضا حزينة ولكنها تعلم أنه الآن فى مكان أجمل لا آلام به وأن علينا أن نفرح له. بعدها سألت عن حال «شيكس»، عن حال شهير الابن الأصغر لجورج وصديقى العزيز وشيكس هو تصغير اسمه المحبب إلى قلبها وقلبى، وعما إذا كنت أريد الذهاب إليه لمساندته وتخفيف حزنه. فقلت أنه والأسرة كلها يحتاجون إلى شىء من الهدوء فى لحظة الوداع. تفهمت ابنتى، وواصلت على مضض الاستماع معى إلى أغنية «يا دنيا يا غرامى» لمحمد عبدالوهاب والتى كان جورج يحبها كثيرا. ثم طلبت منى أن أروى لها بعضا من ذكرياتى مع «جوكا» (كما كانت تسمعنى أناديه وأخاطبه). وهنا لم يعد الصمت ممكنا، وانزوى خطر العزلة فى حضرة «الست ناديا» التى لم تكن لتقبل من القصص، وهى لم تشاهد جورج الغالى فى زياراتنا المتبادلة سوى مبتسم ومتفائل، إلا ما يحتفى بحياته وغرامه بالدنيا.
• • •
قلت لها إننى تعرفت عليه قبل سنوات طويلة (٢٠٠٤) فى مدينة الإسكندرية (على هامش ورشة عمل حول المواطنة والإصلاح الدستورى والسياسى كانت قد نظمتها الهيئة القبطية الإنجيلية للخدمات الاجتماعية وأقيمت فى فندق فلسطين البديع). قلت لها أنه خاطبنى منذ الوهلة الأولى مستخدما الصيغة المعروفة لتصغير اسمى فى العامية المصرية، وأن طريقته الحميمية فى الحديث وبحثه الدائم عن أعين من يخاطبهم ويخاطبونه وإشارته إلى كونى درست «مقدمة فى العلوم السياسية» لشهير الذى كان آنذاك من طلاب كلية الاقتصاد جميعها أمور أسقطت بسرعة الكثير من الحواجز بيننا وقريتنى منه.
رويت لناديا أن سنوات سفرى للعمل فى الولايات المتحدة بين ٢٠٠٥ و٢٠١٠ لم تمنع تجدد اللقاء بين جورج وبينى إن أثناء زياراتى المتكررة لمصر أو خارجها فى نقاشات أكاديمية حول السياسة فى بلادنا (آنذاك كانت مراكز دراسات الشرق الأوسط تتهافت على مشاركة جورج فى ورش عملها بعد أن أسس حركة كفاية فى ٢٠٠٤ وجمع بها على هدف الديمقراطية ممثلين عن جميع التيارات الفكرية والسياسية). قلت إن خفة دم جورج وضحكاته وابتساماته كانت تجعل من أشد النقاشات مللا مقبولة الحضور وتجعل أوقاتها تمر متسارعة. وتذكرت كيف ضجت قاعة جامعة أوروبية بالضحك (كان ذلك فى جلسة مخصصة لمناقشة تجربة حركة كفاية) لأن جورج تمسك بوضع سماعات الترجمة الفورية على أذنيه على الرغم من تعطل الخدمة وكيف قال بصوته الجهورى حين سئل عن السبب أنه يستقبل إرسالا خاصا من قمر صناعى متطور للغاية يشرح له كل ما يستعصى عليه فهمه من أحاديث الخبراء الأجانب!
صمت قليلا، أعدت تشغيل «يا دنيا يا غرامى»، استرجعت فيض ذكريات المواقف والأحداث العديدة التى جمعت بين الغالى جورج وبينى بعد ٢٠١١ وصنعت بمحطاتها المتتالية وتقلباتها الدراماتيكية صداقتنا، من النشاط السياسى والحملات الانتخابية إلى العمل الحقوقى من داخل وعاء المجلس القومى لحقوق الإنسان فى تشكيله الجديد بعد ثورة يناير وبين الأمرين دورات الأمانة العامة للمدارس الكاثوليكية ونقاشات حول سبل مناهضة التمييز وإقرار حقوق المواطنة المتساوية وأعمال لجان تقصى الحقائق التى شكلت فى أعقاب هجمات طائفية مقيتة وحوارات تليفزيونية تشاركنا فيها وزيارات أسرية متبادلة. قلت لناديا، حين التفت أن صمتى لم يجعلها تترك جانبى وأن عودة صوت عبدالوهاب لم تنفرها، إننى سأقص عليها من فيض الذكريات هذا مشهدين طريفين دوما ما حرص جورج على استدعائهما ضاحكا كلما التقينا.
• • •
حكيت أن جورج، أستاذ التاريخ، كان ينظم دورات تثقيفية لطلاب المدارس وتدريبية للمعلمين (من خلال عمله فى الأمانة العامة للمدارس الكاثوليكية التى لم تكن تقدم خدماتها للمصريين المسيحيين فقط) وإننى شاركت كمحاضر فى دورات كانت أماكنها تمتد امتداد رقعة الوطن من بورسعيد إلى أسوان ومن العريش إلى مرسى مطروح. وفى دورة عن حقوق المواطنة والمشاركة السياسية نظمت لطلاب المدارس فى معسكر للشباب بمرسى مطروح وبعد أن انتهت أعمال اليوم الأول وكنت أجلس على الشاطئ معه ومع أستاذ التاريخ الجليل الدكتور محمد عفيفى ومع بعض الطلاب نتحدث عن أحوال البلاد والعباد، سمعنا صخبا قادما من مبنى الطلاب وميزنا صرخات استغاثة تتحدث عن وجود عديد الصراصير داخل الغرف. فما كان من جورج، وهو كان يعرف من مواقف سابقة أننى أرتعب من تلك المخلوقات وكأنها قادرة على افتراسى حيا، إلا أنه نهض من جلسته وقال بصوته الجهورى «بس عندى الحل! يلا يا عموره روح خلص على الصراصير وساعد ولادك الطلبة»! وطبعا لم أفعل، بل ركضت بأقصى سرعة ممكنة إلى بقعة مظلمة على الشاطئ هاربا من «تدبيسات جوكا» المعتادة.
رويت أن مراقبة الانتخابات كانت من بين واجبات عضوية المجلس القومى لحقوق الإنسان بين ٢٠١١ و٢٠١٣، وأن جورج (كان توزيعه داخل المجلس فى لجنة الشكاوى) وأنا (كنت فى لجنة الحريات) تشاركنا أكثر من مرة فى أعمال المراقبة وكتابة تقارير عن سير العملية الانتخابية وحدود الانتظام والتجاوز. قلت لناديا أن مراقبة الانتخابات (البرلمانية) فى ٢٠١١ (فى جولتها الثانية) ذهبت بجورج وبى إلى عدد كبير من مدن وقرى محافظات الدلتا. وفى إحدى المدن، وكان ذلك يوم الانتخاب والذى يفترض به صمت ماكينات الدعاية الانتخابية وغياب جميع مظاهرها، وجدنا لافتات ويافطات لبعض المرشحين والأحزاب معلقة على أبواب مدرسة حكومية كانت فى ذات الوقت مقر إدلاء المواطنات والمواطنين بأصواتهم. طالبنا حارس المدرسة بإزالة جميع اللافتات واليافطات، وساعدناه مع آخرين على إزالتها. بعد الإزالة، غادرنا المدينة لنستكمل جولتنا على بقية الأماكن التى كان علينا مراقبة الانتخابات بها. وفى مساء ذلك اليوم الطويل عدنا إلى مدينة ومدرسة «الإزالة»، لنلقى الحارس واضعا يده على رأسه ورأسه مغطاة بشاش طبى. ما إن لمحنا الرجل إلا وركض نحونا صارخا ومنفعلا: «بطحونى يا أستاذ جورج، ضربونى يا دكتور عمرو، سيحوا دمى»! سألناه عما حدث، فقال أن مرشحا من المرشحين الذين أزال لافتاتهم بعد أن طالبناه نحن بذلك لم يرق له الأمر وأرسل من اعتدى عليه وأنه خلال الساعات الماضية انتظر عودتنا «عشان نجيبله حقه» ولكى يتدخل المجلس القومى لحقوق الإنسان لصالحه. ارتفع صوت جورج لاعنا المرشح الذى اعتدى على الحارس المسكين وعارضا عليه الذهاب فورا إلى قسم الشرطة للإبلاغ عن المعتدين. ثم نظر جورج ومعه الحارس باتجاهى لصمتى وعدم اشتراكى فى الحوار. فما كان منى، وكان إرهاق يوم المراقبة قد بلغ منى مبلغا شديدا، إلا أن قلت للحارس «معلش يا حبيبى، حقك عليا، روح بيتك دلوقتى طالما ما فيش نزيف والصباح رباح ونبقى نشوف هنعمل ايه»! وافق الرجل بعد أن «طيبت خاطره»، وما إن غادرنا المكان إلا وانفجر جورج ضاحكا «الراجل يقولك بطحونى يا دكتور عمرو، تقوم تقولوا وأنت بتنام على روحك معلش يا حبيبى وروح بيتكوا دلوقتى، يا عينى على التعامل الشيك مع انتهاكات الانتخابات، والراجل بدل ما يقول يلا بينا على القسم يوافقك ويمشى، ده حاجة غلب»! لم أتمالك نفسى من الضحك على سخريته منى، ولم أقل غير أننى كنت أنام واقفا أثناء شكوى الحارس مما حدث له وأنه لا يعرف أسماء المعتدين وإننى سأوثق الواقعة فى التقرير الذى سنقدمه إلى المجلس.
«ده هيبقى تقرير معلش يا حبيبى وحقك عليا، نام نام يا عموره»، قالها جورج فى طريق عودتنا إلى القاهرة فى ذلك المساء فى خريف ٢٠١١ ولم يتوقف أبدا خلال السنوات الماضية عن استدعاء جملة «معلش يا حبيبى» كلما استرجعنا معا بعضا من ذكريات ما كان.
• • •
ضحكت ناديا طويلا، وطالبتنى بقصص أخرى. قلت إن فى داخلى الكثير من الحكى عن الغالى جورج وعن مواقف وأحداث أخرى فى أماكن أحببناها من بورسعيد إلى أسوان ومع أصدقاء مشتركين اجتمعنا على حب نقاء وشجاعة وجرأة وتفاؤل هذا الرجل الاستثنائى الذى عمل دوما على تغيير واقع بلادنا إلى الأفضل وعلى البحث عن حلول عملية لصون حقوق وحريات الناس دون تمييز. وعدت ابنتى بقصص وحكايات إضافية عنه وعن سيرته حتما ستأتى عما قريب، واستأذنتها فى قليل من الوحدة للصلاة له والترحم عليه.
فسلام عليه، والرحمة لروحه الجميلة. أفتقدك بالفعل ولا أقول إلا ما يقول أهلى فى الصعيد حين يعز الفراق، هتقطع بينا يا جورج.
أستاذ علوم سياسية، بجامعة ستانفورد