على ناصية الطريق طلبت البنت كوز ذرة. سأل الأب عن ثمنه فيما بادرت الأم قبل سماع الرد من البائع: كفانا بعزقة، ولما عرف ثلاثتهم السعر المقرر، استداروا ومضوا خاويي الأيدي، مقتنعين بالرأي السديد؛ فالسعر يمثل نسبة معتبرة من الميزانية المقررة لليوم؛ والقرار أن يتنازلوا جماعة عن مسرة عابرة لم تعد في المستطاع. لم يعد كثير الناس يخططون لأشهر قادمة، وإنما يعيشون اللحظة المجردة، ولا يطمعون في أكثر من انقضاء نهارهم على خير.
• • •
يأتي الفعل بَعزَقَ في قواميس اللغة العربية بمعنى فرَّق وبدَّد في غير المَوضِع المناسب، الفاعل مُبَعزِق بكسر الزاي والمفعول به مُبَعزَق بفتحها والمصدر بعزقة، والتبديد يشمل الملموس والمحسوس كما يشمل المعنوي أيضًا؛ فإذا قيل بعزق أمواله؛ كان المعنى أنه أهدرها فيما لا يفيد، وإذا بعزق واحد كرامة الآخر فالقصد أنه فتتها وبعثرها، والشخص المُبعزق مجازًا هو المُهان الذي لا يحظى باحترام من حوله.
• • •
إذا صاح واحد بالآخر في لحظة غضب: لِمّ نفسَك، لأجابه على الفور: يعني أنا مبعزق؟ والحال أنه استشعر ما بالأمر الموجه إليه من تهديد وشيك وما في باطنه من ازدراء وتحقير، فاستعد للدفاع عن ذاته بالسؤال الاستنكاريّ، وعمد إلى استثارة غريمه ودفعه للإيغال في الخطأ كي يأخذ منه ذريعة للتصعيد. إذا تبعزقت كبرياءُ المرء؛ جاز له أن يثأر، وإذا لم يتمكن من صون كرامته حمل الوصمةَ أبدًا.
• • •
ربما اختفى حرف الباء فتحول الفعل من بَعزقَ إلى عَزَقَ، وحمل بعد اختزاله بعض المعاني الإضافية. على سبيل المثال فإن قولة: عزق الرجل أرضه، تفيد فلاحتها وتقليب تربتها وإعادة توزيعها، وذاك عمل من صميم أعمال الزراعة في الأيام الخوالي، والحق أننا لم نعد نستخدم هذه العبارة التي مثلت صفحة أساسية من صفحات المناهج الدراسية في مرحلة التعليم الابتدائي لأجيال؛ فقد حلَّت الآلات الحديثة محلَّ الفأس تقريبًا، ولم يعد العَزقُ مُجديًا في ظلّ وجود المركبات الضخمة التي تقوم وحدها بمُعظم الأشغال؛ فتكفي البشر الجهد الشاق الذي يبذلون، وتكف سواعدهم عن التواصل مع الأرض، وتحرمهم في الوقت ذاته من أسس الارتباط بطميها ورائحتها، وتنتزع استعدادهم للتضحية دفاعًا عنها.
• • •
في معركة طفولية قد يعزق الولد زميله، أي يوسعه ضربًا بقدر ما تيسَّر، وفي سياق آخر قد نتباهى بأننا عزقنا فلانًا أو علانًا، والقصد الإشارة لما أنزلنا به من تبكيت وإفحام في موقف حاسم. لإن تدنى مسلكُ المَرءِ في حياته وأمسى كريهًا، قيل قد عَزقَ خُلقُه ووَصَلَ إلى حالٍ أسيفة؛ ساء معها في أعين الناس فعلُه، وباتت معاملتُه مَقيتةً مَذمومة. ثمة ضروب من العزق وألوان من البعزقة، قليلها محمودٌ وغالبها لا يستقيم.
• • •
تقول الأمثولةُ الشعبيَّةُ الأصيلة: كذِبٌ مُساوٍ ولا صِدقٌ مُبعزَق، وفي قول آخر شبيه: كذبٌ مَرصوصٌ ولا صِدقٌ مُبعزَق. المعنى عميقٌ باهر الدقَّة ومُزعجٌ في الوقت ذاته؛ فالمرءُ ما كذبَ وعجزَ عن حَبك كلامِه وتنميقه وجعله مقبولا من السامعين؛ فقد القدرة على إقناعهم والتأثير فيهم، بل واستفزهم بسوء تدبيره، أما إن جاءت كذباته مصفوفة مرتبة، معتنى بتماسكها وصوغها؛ كانت أقرب إلى التصديق. الحق أن هذه الأمثولة تقود إلى أخرى قد تبدو بعيدة المعنى عنها، لكنهما في ظني وثيقتا الصلة، تلك هي: عدو عاقل خير من صديق جاهل. العدو الحكيمُ الذي يعقلُ؛ يقدم مُغالطاته في صورة يمكن التعامل معها والرد عليها، أما هذا الذي يتمتع بالجهل أو بضعف العقل؛ فيأتي بخطاب مهلهل يصعب التدني إلى مستواه الفكري وتتعذر مقارعته بالحجة السليمة، وما أكثر ما نصادف من خطابات تتمتع بقدر هائل من التردي على مستوى الأسلوب والمحتوى؛ تجعلنا في عجب من أمرها، وفي حِلٍ من الاشتباك معها حفظًا للوقت والجهد وسلامة النفس.