تجرى هذه الأيام محاكمة أحد جلادى رومانيا، الذين مارسوا التعذيب والقتل خلال فترة الحكم الشيوعى. «ألكساندرو» فى الثامنة والثمانين من العمر، هزيل الجسد، شعر رأسه منحسر، وعلى وجهه المنهك علامات كبر واضحة. الاتهامات الموجهة إليه تتعلق بمسئوليته حين كان آمرا لواحد من السجون المعروفة، عن جرائم ضد الإنسانية. قيل إن هذه الجرائم ارتكبت تحت قيادته فى الفترة ما بين عامى 1956 و1963.
نشرت الصحف تفاصيل كثيرة عن «ألكساندرو» الذى تساءل بعد تحريك الدعوى ضده؛ لماذا لم يحاكم فور إسقاط النظام وإغلاق المعتقلات السياسية؟ جاء الرد المثير: إن تأجيل المحاكمات لأعوام طوال لم يكن إلا مناورة من رجال النظام الجديد؛ بعض هؤلاء الرجال سبق لهم تولى مناصب رفيعة فى النظام السابق، هددت بجعلهم هم أيضا مسئولون عن جرائم التعذيب، وبالتالى عرضة للمحاسبة، وكان لابد من حمايتهم بالانتظار؛ يهرب من يستطيع، يؤمن نفسه وعائلته من يستطيع، ويتوفى من يستطيع. والمعنى أن ثمة خيطا متصلا لم ينقطع بسقوط نظام وقيام آخر.
•••
حين عرف الناس بأمر ألكساندرو، هاجموا بيته وطرحوه أرضا فى الطرقات، لكنه قال إنه نفذ الأوامر التى تلقاها، وإن هؤلاء الذين أصدروها لم تتم محاكمتهم طيلة ربع قرن، ومات أغلبهم على فراشه كريما دون أن يمثل أمام القضاء أو يهان. رغم مواجهته بأسماء وأعداد من قضوا نحبهم جوعا ومرضا وعذابا، لم يحاول ألكساندرو الاعتذار، لم يبد أسفا ولا ندما على ما جرى.
ذكرنى موقف ألكساندرو بمواقف جلادين آخرين. أفاد مستشار سابق للأمن القومى العراقى، بأن الرئيس صدام حسين الذى اشتهر بأفعال وحشية متعددة، جاء فى اليوم المقرر لإعدامه طبيعيا لا يعتريه ارتباك. لم تظهر عليه علامات الخوف أو حتى التوتر، رفض وضع الغطاء على وجهه، لم يطلب العفو أو المغفرة من الله، لم يدع أو يصل كما يفعل المقدمون على اختبار رهيب كالموت. قال مستشار الأمن القومى: «طبعا بعض الناس يريدوننى أن أقول إنه انهار، أو إنه كان تحت تخدير الأدوية، لكن هذه حقائق للتاريخ، مجرم صحيح، قاتل صحيح، سفاح صحيح، لكنه كان متماسكا حتى النهاية»، قال أيضا إن الرئيس الواقف على حافة الإعدام، لم يفصح عن أى شعور بالذنب أو الندم.
•••
مر بذهنى أيضا «نوون شيا» أحد كبار قادة الخمير الحمر، إذ أدين مطلع هذا الشهر بالضلوع فى جرائم ضد الإنسانية. هذا الرجل الذى شارك فى إبادة مئات آلاف المواطنين الكمبوديين، قالت وكالات الأنباء عنه إنه اعترف بما سمته «نوعا من المسئولية الأخلاقية»، وإنه أبدى بعض الندم، ثم طلب إخلاء سبيله، الأمر الذى جعل ندمه عصيا على التصديق، خاصة مع وجود تسجيل يقر فيه بعمليات الإبادة ويبررها.
•••
يشعر بعض الأشخاص بالندم ربما بصورة مبالغ فيها، وأحيانا دونما سبب، بينما لا يعرف آخرون طريقه مهما تعاظمت سقطاتهم. أظن أن اختفاء الشعور بالذنب هو مرتبة أولى فى سلم الاعتياد وتبلد الوجدان، إذا تجاوزها المرء بنجاح ترقى إلى مرتبة ثانية حيث لا ذنب، ولا ندم، ولا أسف على أى شىء فى الوجود.
رغم أن الندم شعور إنسانى أصيل، لكن ثمة دراسات حديثة أظهرت أنه ينتاب كذلك بعض الحيوانات ومنها الفئران. أقرت الدراسات أن علامات الندم ظهرت فى سلوك الفئران وتصرفاتها، عندما اتخذت قرارات خاطئة تتعلق بطعامها، ليس هذا فقط بل إنها عدلت قراراتها لاحقا متجنبة هذا الشعور. بعض البشر يندم على اختياراته والبعض لا يندم، بعض البشر حظه من الإنسانية أقل من حظ الفئران.
•••
أعود إلى قضية ألكساندرو. اهتممت بالتعليقات التى جاءت على أخبار محاكمته أكثر من اهتمامى بالخبر نفسه. عشرات الأشخاص رفضوا التسامح معه، وعشرات آخرين وجدوا له العذر فى عدم القدرة على مخالفة أوامر كانت آنذاك مقدسة وكان مخالفها خائنا. توقفت عند تعليقات قليلة تناولت دفاع الرجل عن نفسه. الدفاع الذى أنكر فيه أفعاله وجرائمه، لم يعترف بها ولم يبد أسفه إزاءها. لم يبد الشعور اللائق تجاه من قضوا نحبهم ومن تقوضت حيواتهم بسببه؛ وبسبب طاعته لأوامر يصعب غفرانها. هذه التعليقات أبدت استعدادها للتسامح معه شريطة اعترافه بأنه مذنب، وبأنه نادم على ما فعل.
طلت فى الأيام الماضية صور أجهزة «تكييف» الهواء، التى تم وضعها داخل أقفاص حديدية فى أقسام الشرطة، عسى أن تخفف ظمأ الناس لعدالة لا تتحقق، وأن تنسيهم الأبناء والإخوة والأصدقاء الذين راحوا ضحايا لجرائم نظام لا يعترف جلادوه بما اقترفوا، ولا يظهرون ندما ولا حياء. نالت الصور وابلا من السخرية على المواقع والصفحات التى نشرتها، وأظنها ستبقى علامة يذكرها التاريخ عندما يحين وقت الحساب، فالجناة يمثلون أمام العدالة وإن لم يشعروا بالندم.