خلال القرون السادس عشر والسابع عشر والثامن عشر، اشتعلت حرب أفكار كبرى فى المجتمعات الأوروبية بين المؤسسات الدينية (الكنسية) التى أرادت السيطرة الكاملة على ضمائر الناس وإخضاع عقولهم لحلقات متداخلة من الأوامر والنواهى امتدت من الحياة الخاصة إلى وجوب طاعة الحكام المؤيدين «بالحق الإلهى» عبر ادعاء احتكار «المعرفة المقدسة» و«الحقيقة المطلقة، وبين طبقات برجوازية ناشئة (تجارية ثم صناعية) ونخب فكرية وثقافية جديدة وجدت فى العلم والحرية والمبادرة الفردية أسس تقدم وسعادة الإنسان والمجتمعات البشرية ورفضت المصادرة على الضمير والعقل باسم كهنوت دينى رجعى وفاسد. وبكلفة عالية وفى مسارات متعرجة، انتصرت قيم العلم والحرية والمبادرة الفردية، وبقيت المؤسسات الدينية بعد تجريدها من ادعاء احتكار المعرفة والحقيقة.
خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، اشتعلت حرب أفكار كبرى فى أمريكا الشمالية وأوروبا وبقاع أخرى على امتداد المعمورة بين طبقات اقتصادية وقوى اجتماعية ونخب فكرية ومؤسسات دينية ومنظومات حكم/ سلطة اعتاشت على ظاهرة العبودية وتجارة العبيد وشرعنتها وسعت للإبقاء عليهما وإن بحروب الجيوش، وبين طبقات وقوى ونخب ومؤسسات ومنظومات حكم/ سلطة أخرى ترسخ فى أوساطها احترام الكرامة الإنسانية كمبدأ والمساواة ومناهضة التمييز كقيمتين رئيسيتين تضافان إلى قيم العلم والحرية والمبادرة الفردية وعملت على تخليصنا من شرور العبودية وتجارة العبيد. وبكلفة عالية وفى مسارات متعرجة، انتصرت قيمتا المساواة ومناهضة التمييز، وجرمت العبودية بتعديلات دستورية وبقوانين فى معظم بلدان المعمورة وباتفاقيات دولية، وشرعت أبواب المجتمعات البشرية للمحاصرة التدريجية لتداعيات العبودية وتجارة العبيد ثم (وبتفاوتات زمنية هائلة) القضاء عليها.
خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، اشتعلت حرب أفكار كبرى بين المراكز الاستعمارية فى أوروبا التى ادعت زيفا أن «رجلها الأبيض» يحمل عبء نشر العلم والحرية والمبادرة الفردية فى بقاع المعمورة المختلفة وبررت لغزوها واحتلالها لأراضى الغير والفرض القسرى لهوية «المستعمرات» على الدول والمجتمعات خارج القارة الأوروبية باسم التقدم والتحديث وهى فى الحقيقة اعتاشت على «المستعمرات» لإنجاز تراكم الثروة المادية فى أوروبا وتعميم الثورة الصناعية وتحديث بنى المجتمعات الأوروبية، وبين شعوب «المستعمرات» التى تطلعت إلى المساواة ومناهضة التمييز كقيمتين عالميتين وإلى تقرير المصير والاستقلال الوطنى كحقين مكملين لقيم العلم والحرية والمبادرة الفردية فى مسيرة البشرية نحو تقدم يتجاوز ثنائية المراكز الاستعمارية والهوامش المستعمرة ونحو تحديث يقضى على تراتبية العالم الأول والثانى والثالث. وبكلفة عالية وفى مسارات متعرجة، انتزعت شعوب «المستعمرات» الحق فى تقرير المصير والاستقلال الوطنى وإن ظل حلم التقدم والتحديث وسد الفجوة بينهم وبين المراكز الاستعمارية القديمة حلما مراوغا لأسباب كثيرة تتنوع من غياب الديمقراطية عن شعوب المستعمرات بعد استقلالها وتهميش العلم والحرية والمبادرة الفردية فى مجتمعاتها إلى ممارسة «أقوياء وأغنياء» المعمورة فى أمريكا الشمالية وأوروبا للاستعمار الجديد.
خلال القرنين العشرين والحادى والعشرين، تشتعل حرب أفكار كبرى بين طبقات اقتصادية وقوى اجتماعية ونخب فكرية ومؤسسات دينية ومنظومات حكم/ سلطة تريد الديمقراطية لدولها ولمجتمعاتها هى فى الشمال والغرب الأمريكى والأوروبى ولا تمانع فى رسوخ الاستبداد فى مراكز عالمية مؤثرة كالصين وروسيا (الاتحاد السوفييتى سابقا) ولا فى استمرار الاستبداد والجهل والقمع والتطرف فى الدول والمجتمعات خارج الغرب وتتعاون معها قوى الثروة والحكم فى المراكز والدول والمجتمعات هذه، وبين شعوب فى الجنوب والشرق تطلب باسمها قوى اجتماعية ومجموعات فكرية وثقافية وحقوقية وسياسية الانعتاق من الاستبداد بحثا عن ديمقراطية منشودة واعتمادا لقيم العلم والحرية والمبادرة الفردية والمساواة ومناهضة التمييز. وبكلفة عالية وفى مسارات متعرجة، صرنا اليوم ندرك كنهها فى مصر، سينتصر البحث عن الديمقراطية وتتخلص شعوبنا من شرور الاستبداد والجهل والقمع والتطرف. فلا تيئسوا ولا تلقوا الأوراق.
غدًا هامش جديد للديمقراطية فى مصر.