جذبتهن هى وراحت تجرى باتجاه طاولة عند خاصرة المقهى حيث تتقاطع ناصيتان وحيث بإمكانهن مراقبة المارة من تلك الزاوية دون أن يثرن انتباه أحد وهى متعة لكثير من نساء بلادنا إلا اللاتى يفضلن التحلق حول الموائد فى المطاعم والمقاهى وكل واحدة ممسكة بهاتفها تتابع ما تفعله صديقاتها ومعارفها على حسابهن عبر الانستجرام وتردد بتعليق أو ضحكة أو ربما بكلمات تقطر غيرة أو حتى شماتة بين الفينة والأخرى.. تمر الساعات وكل واحدة مسترخية مع هاتفها وينتهى اللقاء دون أن تتبادل الصديقات أى كلمة ودون أن يتشاركن إلا فى لقطات السلفى لوضعها على حسابهن فى الانستجرام أيضا! وهكذا يمر الوقت سريعا ذاك العدو الكبير للعديدات اللاتى تعلمن وهن صغار أن الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك وما إن كبروا وكثرت الهواتف الذكية وتحولت أكبر أمنية إلى مطلب صغير فى شكل زوج ثرى.. فلم يعد الوقت كالسيف بل هو طويل ممتد، والحصارات الكثيرة التى فرضت عليهن حولتهن جميعا إلى عوالم افتراضية لتتقلص اهتمامات كثيرات إلى مجرد متابعة للأخبار وتفاصيل حيوات الآخرين ورحلاتهم الصيفية أو الشتوية وبيوتهم والمطاعم التى يرتادونها والأكلات المفضلة والأفراح الفاخرة حتى الغثيان عندما يتجاور الثراء الفاحش مع الفقر المدقع ويتلاصقان حد البعد لمسافات ضوئية.. فلا الأثرياء يدركون حال الضعفاء إلا بالتأكيد فى تلك الحفلات البائسة لجمع التبرعات والتى تكثر فى رمضان طبعا فيما تحول العالم من الاكتفاء بالتبرعات والشفقة على الفقراء المعوزين إلى صناديق تنموية حقيقية توفر لهم فرص للعمل والمداخيل حتى تصون كرامة انتزعت من ثقافة هذه الأجيال الحداثية ونقلت دون تردد إلى المتاحف وكتب التاريخ التى كتبت هى الأخرى حسب أهواء كاتبيها على الرغم من أن لكل حدث واحد أكثر من رواية!
***
هن خمس نساء من بلدى وهى أكبر من تلك الجزيرة وأوسع من اثنين وعشرين بلدا.. هن يرتدن المقاهى قليلا فلا وقت لديهن ولكن يسرقن اللحظات ليعيدن خيوطا نسجت بكثير من الدمع ولحظات الفرح والسهرات معا حول مائدة من الطعام اللذيذ فقط لأن كل واحدة تتنافس لتحول تلك المائدة البسيطة إلى وليمة من المحبة المعتقة فى سنوات التعب..
لكل واحدة قصة بل ربما قصص ككل نساء هذه الأوطان.. قصص فى التضحيات الكبار والعطاء والعيش عند حافة الكون فيما نصفها الآخر بل أنصاف مجتمعاتنا تعيش أيامها بالطول والعرض.. اثنتان متزوجتان منذ سنين طويلة حتى نسيتا طعم القبلة الأولى واللمسة الحنون وكلمة «أحبك» وباقة من الزنبق أو حتى المحمدى.. أما الأخريات فهن الباحثات عن الحب حتى آخر دمعه يصدقن الحوار الأول وكأنهن يسمعنه للمرة الأولى وتتكرر الروايات والقصص المتشابهة حتى يتصور المرء أن هناك مرجعا واحدا للرجل العربى تحت عنوان «كيف تقيم علاقة مع امرأة وأنت متزوج فيما توهمها أنك لم تعد كذلك».. كتيب صغير يوزع على كل رجل مع ليلة الزفاف الأولى وحبيبته الجميلة الرشيقة الذكية المتعلمة فى حضنه ولكنها نصيحة الأصدقاء المجبرين والحيطة من ملل لا بد أن يضرب فى عمق بعض تلك العلاقات.. تقول صديقتى المتزوجة إن الزواج بحاجة إلى جهد متواصل ليتجدد وإلا فسيموت موتا بطيئا وتتحول العلاقة إلى روتين أو شبه توافق على مساحات ترسم فى خطوط حول المنزل هى الأخرى لا ترى بالعين المجردة كما ذاك الموت!
***
تقول هيفاء وهى تضحك ضحكات تطلقها فيما يبدو من بين خلايا طرزت بالأمل..
كثيرة الرقة كالفراشة ومثلها تتصور أن الضوء نور فتحلق حوله كلما اقترب وما هى إلا سويعات أو أيام أو أشهر أو حتى سنوات حتى تكتشف أن الضوء لم يكن سوى محرقة للقلوب التى كبرت على «أنا لك على طول خليك ليا»... وانتهت بأن ترسل له عبارة تزين بها صباحاتها حتى لا تنسى وحتى تكمل طقوس الأمل والضحك.. تقول هى إنها التقت فى ذاك الذى تصورت أنه حبها الأول والأخير بعد سنين وكثير من الشيب قد كسا رأسه.. نادى عليها من بعيد فى محطة القطار تلك وجاء مسرعا مدت يدها فيما كان يحاول أن يحضنها.. أبقى يدها بيده وهو يتحسس خواتمها، تقول إنها لم تفهم فى البدء ثم عرفت أنه يحاول أن يبحث عن محبس الزواج.. تتوقف عن السرد والصديقات متسمرات يردن معرفة بقايا القصة فيما هى تبتسم بخبث وتقول هل تعرفون لماذا سموه «محبس» على الرغم من أنه خاتم؟ يضحكنا جميعا وتكمل بأنها بعد قليل سحبت يدها وكأن دهر قد مر وتعذرت منه بموعد غير حقيقى مع صديقة تنتظرها على الرصيف الآخر من المحطة.. عندها لاحظت نظرات العتب أو الحزن أو ربما الخسارة الفادحة.. ودعته وهى توعده بلقاء قبل رحيلها وهى تقول فى نفسها «أبدا أبدا».
***
تخرج من المحطة وتسير سريعا تلسعها نسمات أيلول الأولى وتثير رعشة فى كل جسدها.. تسابق الريح مسرعة نحو البحيرة وهى تردد كلمات حبيبها الأبدى شمس التبريزى «عندما أخبرته أن قلبى من طين، سخر منى لأن قلبه من حديد.. قريبا ستمطر.. سيزهر قلبى.. وسيصدأ قلبه...» تضحك عاليا حتى ينظر لها المارة بشىء من الريبة وتردد لقد ازهر قلبى فأصبح حديقة خضراء..