«شو آخر الأخبار؟» يسأل السورى سوريا آخر حين يلتقيان. «عرفت شو صار بأحمد وعيلته؟» يجيب الثانى. «شو قصتكم يا سوريين؟» يسألنا الأصدقاء غير السوريين. «امبارح ماتت خالتى من القهر، عن جد من القهر» يحكى أحدهم. «هل لك أن تشرحى لنا خريطة سوريا الديمغرافية اليوم بالمقارنة مع ما كانت عليه قبل الأزمة؟» يسأل صحفى مطلع على «الملف السورى». «والله من زمان الواحد ما كان يعرف جاره إذا مسلم ولا مسيحى» جملة بتنا نسمعها كثيرا. «ما المطلوب اليوم من المجتمع الدولى تجاه سوريا» تعلن لافتة خارج مقر المؤتمر. «لسه أبومحمد البقال فاتح ولسه عندو أحسن لبنة؟» أسأل أقربائى حين أتصل بهم. «شو صار بعدين؟ تجوزوا؟ ووين عايشين بعد ما انضرب بيتهم؟» تسأل صديقة.
***
يكاد لا يخلو أى حديث أو لقاء أو اجتماع اليوم من الإشارة إلى سوريا وإلى ما آلت إليه الحرب الطاحنة هناك. بل لا يخلو أى حديث اليوم من التعبير عن عدم وجود حل للموضوع السورى بعد أن تعقدت التطورات بشكل لم يعد يسمح حتى لنقاش عقلانى. فى الوقت ذاته، أو ربما كرد على فداحة المنظر فى سوريا وبشاعة الدم المتأجج هناك، امتلأت وسائل التواصل الاجتماعى بصفحات تسلط الضوء على اللغة السورية الدارجة بلهجاتها المختلفة حسب اختلاف المناطق، وصفحات أخرى تعدد الأمثال الشعبية أو الطبخات التقليدية أو الثقافة المجتمعية أو التاريخ أو الفن السورى، وكأن ثمة ذاكرة بدأنا نحن السوريون بمحاولة توثيقها، خوفا منا على اندثارها حتى ولو أننا لم نعترف بذلك بعد. كما أصبحت وسائل الإعلام تشجع على كتابة المقالات وإنتاج التقارير المصورة حول سوريا على طريقة «سرد الحكاية»، أى أنها تركز على التفاصيل الحياتية للسوريين بغية إظهار أثر الكارثة الإنسانية على حياتهم اليومية، عل ذلك يساعد على «أنسنة» السوريين بدل شيطنتهم.
أصبحت اللقاءات العائلية والمكالمات الهاتفية حين يتعذر اللقاء مناسبة لتبادل الحكايات عمن رحل وعمن بقى، ومناسبة نتذكر فيها مغامرات الأولاد وقصص الجيران ووصفات الجدات. لكل سورى حكاية، بل لكل سورى ألف حكاية، خصوصا اليوم، وأكاد أجزم بأن داخل كل سورى حكواتى يتوق لسرد قصصه. فمن بلد الألف طريقة للموت كما نراها أحيانا، تحول الكثير منا إلى حكواتى بشكل أو بآخر.
***
أن تكون سوريا اليوم هو أن تحمل معك بقجة قصص تفردها فى أية جلسة، تحكى مقتطفات من حياتك، فتأخذ من يسمعك فى رحلة سريعة إلى الحارة القديمة أو إلى مطبخ العائلة أو إلى مكان عملك السابق. تلاحظ وأنت تحكى أن طريقتك فى السرد قد تغيرت عن أول مرة حكيت فيها عن الحارة وعن المدرسة وعن حياتك هناك. اختفت بعض التفاصيل من ذاكرتك، وحلت مكانها تفاصيل بت لا تعرف إن كانت فعلا موجودة أم أنها من نسج خيالك ونتيجة رغبتك فى التمسك بالقصة، ومع الوقت ربما بدأت بتجميل بعض الجوانب التى لم تكن تحبها. كقصص الحكواتى الشاطر، تكتسب قصص السوريين ألوانا ونغمات جديدة مع كل انعطافة، فيظهر أشرار جدد وتظهر شخصيات لم تكن قد حكيت عنها من قبل. تعيد ترتيب المحطات فى قصتك، فتبدأ أحيانا بالنهاية ثم تعود أدراجك، أو تبدأ بالحكاية منذ يومها الأول وتضيف عوامل الإثارة مع تقدمك فى السرد. لا يتساءل المستمعون عن الشخصيات الجديدة وعن دخولها على القصة، فأنت قد أحكمت الحبكة حتى تداخلت القصص معا فصارت كالبساط الملون، هنا تظهر صورتك طفلا تجلس على حجر عمتك، هناك صورة صديقك فى عرس قريب لك تذكرك أن صديقك حينها كان معجبا بأخت هذا القريب، هنا يظهر وجه جدتك مبتسما، وهى تخرج صينية المعمول من الفرن فى بيتها، هنا ترى مجلس العزاء الذى تلى وفاة جدك، لكنك كنت صغيرا حين رحل، فلا تعرف إن كنت قد حضرت المجلس أم أن حديث أقربائك عنه قد ساعدك فى تصوره حتى أصبحت مقتنعا أنك تتذكره.
***
أن تكون سوريا اليوم هو أن تشعر أنك مسئول عن القصة السورية برمتها، تعيد حياكتها حسب تغير رؤيتك ومزاجك وحسب تأثر من تحب بالتطورات. تكتب قصصا لا تنتهى عن الحب فى زمن الحرب وعن الأمل والأحلام، ثم تمحوها وتعيد كتابتها فى يوم يكون مزاجك فيه معكرا، فتجد أن قصصك أصبحت تدور حول العجز والموت والتهجير. أيام وتمحو ذلك أيضا حين تسمع عن سورى نجح فى مجال يظهره الإعلام وكأنه غير متوقع، ثم تعود فتتساءل: لماذا يحتفل العالم بسورى برع فى مادة الفيزياء، وكأنه من المتوقع ألا يبرع. كاذب من يدعى أنه يملك الرؤية كاملة، حتى لو تمكن من توسيع عدسته لتشمل جوانب يفضل أن يتجاهلها. لذا فقد بدأ بعضنا فى نسج قصصه السورية، أو ملحمته السورية، وبات من المهم أن نخطط لذاكرة فردية وجماعية عما حل بنا. كل قصة مهمة وكل واحد منا فى داخله حكواتى يجب أن يطلق له العنان ليساهم فى أرشفة القصة السورية. فقصتنا غير كل القصص، والحكواتى داخلنا يعلم أن لا حكواتى ينافسه اليوم فى العالم فى تنوع وتلون وحدة قصصه.